علي حسين باكير - العرب القطرية

عندما بدأ سلاح الجو في القوات المسلحة التركية هجوما على مناطق تواجد تنظيم «داعش» وحزب العمال الكردستاني في المناطق الشمالية المحاذية لحدود تركيا الجنوبية في كل من سوريا والعراق، سارع كثيرون في الإعلام وفي الصحف إلى الحديث مجددا عن منطقة آمنة أو عازلة في شمال سوريا، خاصة أن اتفاقاً أولياً كان قد تم التوصل إليه بين الجانب التركي والجانب الأميركي يقضي بسماح تركيا باستخدام قوات التحالف لقاعدة «أنجرليك» العسكرية في مدينة أضنة جنوب شرق البلاد في هجومها ضد «داعش».

لقد فسر كثيرون الاتفاق على أنه إشارة لبدء تنفيذ المنطقة الآمنة أو العازلة، وقد استند هؤلاء إلى تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء التركي ورئيس الجمهورية التركية تتحدث عن أهمية المنطقة الآمنة والفوائد التي سيجنيها السوريون والمجتمع الدولي منها وذلك في إطار استعادة الأمن والاستقرار ومكافحة التنظيمات الإرهابية واستعادة الحرية والديمقراطية في سوريا.

المشكلة أن معظم التفسيرات المتعلقة بالحديث عن المنطقة الآمنة لا تستند إلى الوقائع والحقائق التي تقول إنه وحتى هذه اللحظة وبعد مرور أسبوع على بدء العمليات لم يجر التوصل إلى اتفاق حقيقي حول إنشاء منطقة آمنة أو عازلة في شمال سوريا. وكلما أراد الجانب التركي الحديث عن منطقة آمنة، جاء الرد عليه من واشنطن سريعا عبر لسان «مصدر مسؤول» يشير إلى أنه لا اتفاق حول هذا الموضوع وأن ما تم التوصل إليه هو «منطقة خالية من داعش».

لا شك أن هذا النوع مما يمكن أن نسميه بـ «التفاوض عبر الإعلام» بين الطرفين قد زاد من الالتباس الموجود عند المتابعين، لكن حقيقة ما يقوم به الأميركي دوما هو إعادة تصويب للمشهد باتجاه محاربة «داعش» فقط، وهو المطلب الأساسي لواشنطن منذ البداية. 

لا شك أن محاربة تنظيم «داعش» هو مطلب تركي أيضا، لكن لطالما ربط الجانب التركي إمكانية النجاح في هذه المهمة بالمتطلبات الموضوعية للقضاء على العناصر التي أدت إلى ولادة «داعش» وتكاثره وخلق البيئة الصالحة له للعمل والتوسع ألا وهو النظام السوري. 

إطلاق عمليات جوية ضد التنظيم لا يعني بشكل أوتوماتيكي قيام منطقة آمنة أو عازلة شمال سوريا، كما لا يعني أن الولايات المتحدة قد وافقت على ذلك. البعض بدوره قد يسارع إلى القول إن ذلك يعني أن تركيا تخلت عن مطلب إسقاط الأسد، وهو اجتهاد غير صحيح أيضا. 

الجانب التركي قرر مدفوعا بالعمليات الداخلية الإرهابية التي تعرض لها أن يأخذ زمام المبادرة ويستغل الخطوة الأولى في الهجوم الجوي على «داعش» ومن ثم يفاوض على الخطوات اللاحقة التي من المفترض أن تؤدي إلى إنشاء منطقة آمنة. هل سينجح في تحقيق ذلك؟ هذا أمر يعتمد بطبيعة الحال على مسار الجهود الدبلوماسية والعسكرية خلال المرحلة المقبلة.

إنشاء منطقة خالية من «داعش» لا يعني أيضا أننا سنحصل على منطقة آمنة، لأن إنشاء المنطقة الآمنة بهذا المعنى سيتطلب أيضاً ألا يكون هناك أي نشاط عسكري لوحدات حماية الشعب الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، ولا نشاطات عسكرية أيضا للنظام السوري والميليشيات التابعة له بشكل مباشر أو غير مباشر.

وبجميع الأحوال لا يكفي قيام تركيا بعمليات قصف جوية ضد داعش حتى تنشأ منطقة آمنة في الشمال السوري، فإذا كانت تركيا عازمة بمفردها أو بالاتفاق مع قوى إقليمية أو بالاتفاق مع واشنطن تحقيق هذا الهدف فلا بد من أن تترافق العمليات العسكرية الجوية مع ثلاثة أمور أساسية:

أولا: وجود قوات عسكرية على الأرض. وفي ظل تصريح الجانب التركي عن عدم نيته الآن إرسال قوات، فهذا يعني ضرورة تسريع دعم المعارضة السورية المسلحة كما ونوعا، سياسيا وماليا وعسكريا. لكن الإشكالية التي قد تبرز هنا تكمن في سؤال «من الفصائل التي سيتم دعمها»؟ الولايات المتحدة لا تثق بأحد وبرنامج التدريب والتجهيز الذي تدعمه لم يخرج إلا 60 شخصا اعتقل قائدهم من قبل النصرة قبل أيام قليلة. على الجانب التركي بالتعاون مع قطر والسعودية أن يقوم بجمع الفصائل الموثوقة والتي تتمتع بالمسؤولية والمؤهلة للقيام بهذا العمل وأن يتم تكليفهم بهذه المهمة مقابل الالتزام بهذا الدعم.

ثانيا: حل معضلة وحدات حماية الشعب الكردية. أحد أهداف القصف الجوي التركي منع تقدم الميليشيات الكردية باتجاه اقتطاع أجزاء من الشمال السوري بشكل يهدد وحدة سوريا، لكن واشنطن لم تتعهد بقطع الدعم عنهم كما أنهم لم يتعهدوا بقطع علاقاتهم من نظام الأسد وهذا يعني أنهم سيبقون مصدر تهديد ما لم يتم قطع الدعم عنهم وإجبارهم على فك الارتباط وتغيير وجهتهم.

ثالثا: إنهاء دور الأسد. ما لم يقم الجانب التركي باستغلال هجماته الجوية من أجل الضغط باتجاه تسريع تطبيق مخرجات اتفاق جنيف وإزاحة الأسد من المشهد تماما والتمهيد لتولي السوريين إدارة الحكم الانتقالي بحكومة كاملة الصلاحيات، فإن هناك من سيستغل الهجمات الجوية التركية لصالح التركيز على «داعش» وإطالة عمر الأسد.

إذا لم نر خلال المرحلة القادمة تقدما باتجاه اتخاذ خطوات عملية في سياق أي من هذه المعطيات الثلاثة فهذا يعني أن موضوع المنطقة الآمنة سيبقى معلقا إلى حين.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس