سعيد الحاج - أخبار تركيا

منذ إعلان اردوغان نيته الترشح للانتخابات الرئاسية، وحتى قبل الإعلان الرسمي عن هذا الترشح، أغرقت الساحة السياسية التركية بسيل من الأسئلة والتكهنات المتعلقة بردة فعل الرئيس السابق عبدالله غل، وموقفه من هذا الترشح، ومستقبل السياسي.

ذلك أن الرجل ليس شخصية عابرة في المشهد السياسي في البلاد، فهو أحد قادة تيار الإصلاح في حركة الفكر الوطني (ميللي غوروش) أيام الراحل أربكان، ومرشحهم أمام رجائي قوطان (مرشح أربكان) في المؤتمر الحاسم الذي خرجت بعده المجموعة الكبيرة من حزب الفضيلة، وأحد المؤسسين الكبار لحزب العدالة والتنمية، وأول رئيس للحزب في ظل غياب اردوغان القسري، وأول رئيس لحكومات العدالة والتنمية، قبل أن يتنازل عنها لاردوغان (بعد انتهاء فترة الحظر السياسي بتصويت البرلمان) ويكتفي بوزارة الخارجية، وهو أول رئيس للجمهورية من العدالة والتنمية منذ 2007 وحتى 2014.

من جهة أخرى، فهذه السيرة الذاتية ليست لرجل في السبعين من عمره ارتوى من بحر السياسة، بل هي لسياسي طموح ما زال يرغب في تقديم المزيد، غير أن التطورات السياسية حكمت عليه بأن يكون خارج المشهد مؤقتاً. هذا الأمر، والطريقة التي تم بها، أثارا تكهنات وتحليلات بانفصام عقد الشراكة والصداقة مع رفيق دربه  اردوغان، في ظل الحديث عن اختلاف رؤيتيهما للأحداث الدائرة في تركيا مؤخراً.

والحقيقة أن الكلام عن خلافهما، أو عن تباين مواقفهما ونشوء خلاف بسبب ذلك ليس بالحديث الجديد في كواليس أنقرة، بل هو قديم متجدد. حتى عندما قدم اردوغان بنفسه غل لرئاسة الجمهورية، اعتبر البعض ذلك رداً لجميل الأخير حين تنازل عن رئاسة الوزراء لاردوغان، بينما اعتبرها آخرون “إزاحة” للأول عن دائرة صنع القرار في العدالة والتنمية والحكومة لإفراد المجال للزعامة المطلقة لاردوغان عليهما، خاصة أن منصب الرئاسة شبه شرفي، بينما رئيس الوزراء هو من يجمع السلطات التنفيذية في يده في النظام السياسي التركي.

تميزت فترة رئاسة غل بتناغم وتنسيق على مستوى رفيع مع الحكومة التركية، نقيضاً لما عانته الأخيرة خلال فترة رئاسة أحمد نجدت سيزار (سلف غل)، الأمر الذي سهل لاردوغان وحكوماته المتتابعة تنفيذ برامجها السياسية وفق رؤيتها. وقد كان بلغ التنسيق بين المنصبين التنفيذيين حداً أغضب المعارضة وحدا بالمحللين السياسيين إلى التبشير بتبادل جديد في المناصب بين الرجلين حين انتهاء فترة رئاسة غل، بحيث يصعد اردوغان إلى قصر تشانكايا، ويتم ترشيح غل لمنصب دولي، من المحتمل أن يكون منصب الأمانة العامة للأمم المتحدة.

بيد أن الخلافات ما لبثت أن اتضحت بين الرجلين وطريقة مقاربتهما لبعض الأزمات التي واجهت تركيا مؤخراً، وكان  أولها أحداث حديقة “جزي” في ميدان تقسيم في اسطنبول، والتي شهدت حركة احتجاجية واسعة ضد الحكومة وتركزت ضد شخص اردوغان. ورغم أن الرئيس غل في حينها اتخذ موقفا منتقداً للحكومة، إلا أن حدة الخلاف لم تطف على السطح باعتبار أن منصب الرئاسة في تركيا “فوق السياسة” ويتخذ تقليدياً موقفاً متساوياً من الجميع. بينما يبدو أن الأزمة الأخيرة التي نشبت بين الحكومة وجماعة كولن قد تكون قد قصمت ظهر العلاقة بين الرجلين.

والقصة أنه في السابع عشر من كانون أول/ديسمبر من عام 2013، وقبيل الانتخابات البلدية المزمعة في الثلاثين منه، قامت بعض القوى الأمنية بحملة مفاجئة قبضت خلالها على أبناء ثلاثة من الوزراء، ورئيس بلدية حي الفاتح في اسطنبول، ومدير مكتب أحد الوزراء، وبعض رجال الأعمال المقربين من الحكومة على رأس العشرات الذين تم التحفظ عليهم ضمن “حملة مكافحة الفساد”. مقدمة تفاصيل كثيرة ومخالفات عدة، اعتبرت الحكومة أن الأمر مدبر لإفشالها وتعاملت مع الحملة وتوابعها باعتبارها محاولة للانقلاب عليها بسلاح القضاء، ولذلك بدأت حملة تجميد وإقالات وتغيير مناصب في الشرطة وجهاز الأمن، اللذين تسيطر عليهما جماعة الداعية فتح الله كولن المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يعتقد تاريخياً في تركيا أن له سطوة على هذه الأجهزة من خلال أتباعه المنتشرين داخلها والمؤتمرين بأمره لا بأمر قيادات هذه الاجهزة.

مقاربة الحكومة التي تتحدث عن “تنظيم مواز” أو “دولة موازية” داخل الدولة تحاول الانقضاض على الحكومة قابلها بعض البطء أو التمنع من الرئيس غل من توقيع بعض قرارات الإيقاف أو النقل، وهو ما لم تره الحكومة ورئيسها مقبولاً، حيث اعتبر الأخير أنه أمام انقلاب متكامل الأركان لا يملك إزاءه رفاهية الانتظار أو الموازنات السياسية. هذا الموقف وغيره للرئيس غل عمّق انطباعاً سائداً لدى البعض بأنه “مقرب” من جماعة كولن.

في ظل هذا التوتر المحسوس تحت السطح، ولاعتبارات منصب الرئاسة التركية البعيدة عن التجاذبات، أخر الرئيس غل كثيراً الإعلان عن نيته أو خطته فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية، لكن إعلان اردوغان عن نيته الترشح للمنصب دفعته للتصريح بأنه لا يملك “خططاً سياسية للمستقبل”، ما اعتبر حينها عتباً أو غضباً على إعلان اردوغان دون تنسيق.

أما حين تأكد ترشيح حزب العدالة والتنمية لزعيمه لرئاسة الجمهورية، فقد قال غل “من الطبيعي أن أعود إلى حزبي”، مثيراً تكهنات بإمكانية تطبيق سيناريو بوتين – ميدفيديف، بالتبادل بين الرجلين، بحيث يعود هو لقيادة الحكومة والحزب الحاكم. بيد أن هذه التكهنات لم تدم طويلاً، حيث قطعها قرار اردوغان تعيين خليفته في جمعية عمومية طارئة لحزبه قبل يوم واحد من تركه لرئاسته، الأمر الذي قطع طريق المشاركة فيها على غل، تاركاً إياه خارج دائرة القيادة في الحزب، بعد أن سبق ذلك قرار بترشيح شخصية واحدة لمنصبي رئاسة الحزب والحكومة.

هكذا، يبقى مصير الرئيس السابق متروكاً لما بعد الانتخابات النيابية المقبلة عام 2015، ولئن  أنكر الرجل أكثر من مرة إمكانية تأسيسه لحزب جديد، إلا أن ذلك يبقى وارداً إن استمر الانسداد في أروقة الحزب في وجهه، ذلك أن الكثيرين من شباب العدالة والتنمية تحديداً يعتبرون أن هدوء الرجل وشخصيته التوافقية غير مناسبين للمرحلة الحالية التي تشهد محاولات إسقاط الحزب والحكومة من الداخل والخارج (وفق رؤيتهم).

وبالتأكيد سيكون أمام الرجل برنامج حافل حتى ذلك الوقت لترتيب أموره وتحديد حلفائه وداعميه ومدى رغبة دوائر الحزب وقياداته في عودته، سيما أنه سيكون عنوان الحل – كشخصية توافقية وتاريخية من مؤسسي الحزب – في حال نشب أي خلاف أو نذر انشقاق أو اضطرابات فيه بعد انتقال زعيمه اردوغان إلى منصب الرئاسة.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس