د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

ربما يعرف النّاس اليوم أنّ "الصّرة الهمايونية"، وهي المسَاعدات التي تُرسل إلى الحرمين الشريفين مع كل موسم حجّ كانت تذهب بشكل منتظم من المدن الكبرى؛ مثل إسطنبول وبغداد ودمشق والقاهرة إلى مكة والمدينة، لكنّ القليل منهم يعرف أن تونس كذلك كانت تُرسل مُساعدات سنويّة بمناسبة الحجّ لتوزع على الأشراف والسّادة وغيرهم من الفقراء المجاورين في مكة المكرمة والمدينة المنورة. وقد أنشئ لذلك في تونس وقفٌ خاص سميّ باسم "وقف الحرمين الشريفين". وقبل موسم الحج بأشهر ينطلق موكب الصّرة من المغرب الأقصى عبر تونس ثم القاهرة ليلتقي في الشام بالمواكب الأخرى القادمة من بقاع العالم الإسلامي الأخرى في موكب بهيج.

فقد أثبت التاريخ أن الصُّرة كانت موجودة في عهد الدولة الحفصيّة وأكثر من اهتم بها السلطان أبو فارس عبد العزيز الذي تولى ملك تونس سنة 796هـ /1394م. فقد بلغ من أمره أنه كان يُوشّحها ويزينها بالحليّ تقربا لآل البيت وإكراما لجيران النبي عليه الصلاة والسلام. وتواصل إرسال الصرّة مع الدولة المراديّة، وكان من أكرمهم وأسبقهم في ذلك الميدان الأمير حمودة باشا المرادي صاحب الجامع المشهور باسمه المسمى بـ"جامع الأفراح" لكثرة ما كان يُعقد فيه من عقود الزّواج. وقد نسج ملوك البيت الحسيني على منوال من تقدّمهم من الحفصيين والمراديين. فكان حمودة باشا بن علي يتولى بنفسه حفظ مال الوقف الرّاجع للحرمين الشريفين ويرى في ذلك خدمة لحرم الله ورسوله.

يُروى أن أحد وزرائه وهو يوسف خوجه اضطر لصرف مبلغ من المال في مصلحة الدّولة، فطلب منه سُلفةً من مال الحرمين الشريفين لمدة عشرة أيام، فرد عليه بالقول: "سألتك بالله أن تُزيل هذا الخاطر من فكرك، وارجعْ في هذه المصلحةِ التي أقْدَمتْكَ على مدّ عينيْك إلى مال الحرمين الشريفين، وذلك أهوَنُ عليّ من مسّ أرزاق أهل مكة والمدينة"، فكفَّ الوزيرُ عن ذلك.

وكانوا يختارون أفضل أهل العلم لتوزيعه على مستحقيه، كالشيخ العالم إبراهيم الرّياحي أو من أعيان أهل البلاد المعروفين بالثروة والعفة والدين. وممن حمل الصرة إلى الحجاز العلامة الشيخ محمد النّيفر في عام 1851م، وفي العصور المتأخرة تشرّف بحملها المدرس الشيخ أحمد جمال الدين في سنة 1885م. كما نيطَ بتبليغها الفقيه الشيخ أحمد زروق. وفي عام 1892م، أي بعد الاحتلال الفرنسي بقليل وقع إرسالها بحوالة تجارية يقع تصريفها نقودا ذهبية بمرسى جدة على يد قنصل فرنسا. ثم بعد ذلك تمّ ترتيب إرسال الصرة من جديد بواسطة أحد العلماء مثلما كان من قبل. وفي عام 1916م أي أثناء الحرب العالمية الأولى تم إرسالها بواسطة الشاذلي العُقبي ومفتي الرّكب الفقيه محمد الجودي مفتي القيروان، وكان يومئذ أمير مكة هو الشريف حسين بن علي.

وكان مقدار الصّرة في القديم يختلف بالزّيادة والنّقص حسب مداخيل أوقاف الحرمين الشريفين. وفي عهد الوزير المصلح خير الدين باشا جعل لها مبلغا قارا قيمته ثمانون ألف ريال، أي خمسُون ألف فرنك فرنسي في السنة، تقسّم قسمين نصفها للحرم المكي والنصف الآخر لأهالي الحرم المدني. وعلى هذا النظام سرى العمل حتى سنة 1935م، ثم في سنة 1936م ارتفعت قيمتها بمقدار الخمس.

ويُودّع ركب الصّرة بموكب فخم يحضره الباي والوزراء ورجال الدولة وكبار موظفي الأوقاف، ومن ضمنهم وكيل الحرمين الشريفين، وبيده صندوق المال المقصود توجيهه للحجاز، فيأذن الباي بإحضار الرّسول المكلف بتبليغ الأمانة، ويدفعها له بنفسه مصحوبة بمكتوب خطي من الباي إلى ملك البلاد العربية قائلا له: "هذه أمانة الله ورسوله تُبلّغ لأهلها إن شاء الله بواسطتك"، فيتسلمها الرّسول في ذلك المشهد العظيم، ويشكر الله على تلك النعمة، ويدعو للباي وينطلق في رحلته.

وكانت أركاب الحج في القديم بالشّمال الإفريقي تنضمّ لبعضها بعضا، وتقصد الحجاز على طريق البرّ، وكان غُدوّها عام ورواحُها عام حسب ما يُروى. فيخرج الركب من طنجة فالصّحراء الجزائرية، ثم واد ريغ ثم نفزاوة. ومن هناك يسير الركب إلى قابس، وهنالك يلتحق به حجاج الدّيار التّونسية. ومن قابس يقصدون طرابلس فبرقة فالإسكندرية فمصر فالشام، وهناك تنضم لها الأركاب القادمة من إسطنبول وبغداد ثم تتوجه نحو الحجاز في موكب مهيب.

والجدير بالذكر أن الدولة العثمانية لم تتخلَّ عن إرسال الصرة السلطانية حتى في أصعب أيامها اقتصاديا وسياسيا. فخلال الحرب العالمية الأولى في عام 1915 تم إرسال 107 حقائب تحتوي على 24 ألف ليرة و847 قرشا إلى أهل مكة، إلى جانب 197 حقيبة تشتمل على 32 ألف ليرة و882 قرشا مع حقيبة أخرى إلى أهل المدينة المنورة.

وعندما قام "الشريف حسين" بثورة في العام التالي انفصلت الأراضي المقدسة عن الدولة العثمانية، ورغم ذلك أصدر السلطان "وحيد الدين" مرسوما بإرسال "صرة كالماضي تُنفق على أهل مكة والمدينة وعربان الحجاز". وكانت آخر صرة في عام 1917 حيث أرسلت عبر الشام في أثناء الحرب العالمية الأولى، ولكن عندما انتهت الحرب بهزيمة الدولة العثمانية عادت القافلة أدراجها إلى إسطنبول، ومن ثم كانت نهاية قوافل المحمل الشريف أو ما عرف بمواكب الصرة.

أما في تونس، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية توقّف إرسال الصرة، ودام ذلك 15 عاما حتى كاد يُنسى ذكرُها بين التونسيين، إلا أن المستحقين لها بالحجاز لم ينسوها وكرّروا طلبها من الحكومة التونسية، فتدخل في الأمر ملك البلاد العربية عبد العزيز بن سعود فاستجابت له تونس. ورغم الضائقة المالية المحيطة بجمعية الأوقاف فقد حصل الاتفاق بين الجانبين على توجيه الصرة على قاعدتها الأصلية، أي إرسال مبلغ سنوي قيمته خمسون ألف ريال في العام. وقد أكبر الملك هذه الخطوة في باي تونس وأهدى له حزاما مصنوعا من الذّهب من أستار الكعبة الشّريفة.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس