د. إبراهيم عبد الله سلقيني - خاص ترك برس

شعوبنا تفكر كثيراً بما تريد، وقليلاً ما تفكر بما يجب عليها فعله لتصل إلى ما تريد!! وقد انتهت فترة أحلام الشعوب، وبدأت الآن قرارات الدول!!

من هذه المقدمة المختصرة يمكننا توقع نتائج «جنيف» و«الأستانة» قبل انتهائها. وسأحاول هنا تقييم أطراف الصراع ابتداء من الأكبر والأقوى إلى الأصغر والأضعف:

أولاً: الناتو:

وهذا فيه اختصار لمجموعة من الدول ذات الاتجاه السياسي المتقارب، وإن كان الصوت الأمريكي هو الظاهر على وسائل الإعلام غالباً، لكن الاعتداءات المتتابعة على ممثلي البعثات الروسية حول العالم (تركيا، إسرائيل، اليمن، اليونان، موسكو...) تدل على أن أمريكا ليست الوحيدة الغاضبة على التفرد الروسي بالقضية السورية. ومع أن أوروبا ليس لها ارتباط مباشر بالقضية السورية إلا في موضوع اللاجئين، واستقرار درع الفرات يساعد على إعادة توطينهم ويحل هذه المشكلة، إلا أن لسان حال الموقف الغربي يقول: لا نريد للحرب في سوريا أن تتوقف، بغض النظر عن الحلول المطروحة، وكأنهم يفكرون بعقلية الحروب الصليبية التقليدية الحاقدة أكثر من تفكيرهم بمصالحهم ومصالح شعوبهم.

ثانياً: روسيا:

الشيء الوحيد الذي تفكر به روسيا هو تحصيل فاتورتها مع أرباحها وفوائدها، حتى لا تخرج بخفي حنين كما حصل معها في الثمانينات، وكما حصل مع بريطانيا في العراق من قبل. وهذا لا يحصل إلا بكسر التحالف الأمريكي الإيراني، وهذا بدوره لا يتحقق إلا بتحييد إيران ذراع أمريكا الحالي في المنطقة؛ لأن أمريكا ليست بحاجة لمواجهة عسكرية مباشرة لروسيا في ظل وجود كلاب تعمل لحسابها في المنطقة، ولا يمكنها التصريح بالولاء لإيران والـpkk وداعش في وقت واحد، حرصاً على سمعتها الدولية!!

وهذا الهدف الروسي لا يعني بأي حال من الأحوال أن تقف مع المظلومين كما يتخيل أصحاب الرؤى السياسية الحالمة، والذين يفهمون الاتفاقيات على أنها نوم في أحضان الذئاب، وهتاف بالحياة الخالدة لروسيا التي أوقفت صواريخها عن بعض المناطق، وقللت القذائف للنصف في مناطق أخرى. بل إن روسيا ستستمر في دعم الأسد -الذي سلم رقبته للروس- ضد الثوار العاجزين عن التوحد، وبالتالي عاجزين عن الحفاظ على مكتسباتهم، إلا إذا تمكنت إيران من إنقاذ الأسد من أنياب الروس وسلمته للمخالب الأمريكية!!

فلعلها تحظى من أمريكا بعظمة سورية كالتي حصَّلتها بالعراق.

ثالثاً: تركيا:

استطاعت تقليل الطباخين حتى لا تحترق طبختها، فاقتصر الاجتماع التحضيري في موسكو على تركيا وموسكو فقط. لكن إجماع الدول الكبرى على نهش ما يمكنها نهشه، وإجماعها على إيقاف المد الإسلامي التركي، ووقوف العالم الإسلامي موقف المتفرج، وتشرذم الفصائل بحجج واهية وعدم تقدمها على الأرض؛ كل ذلك جعل طبخة تركيا تشوط كثيراً حتى قاربت على الاحتراق، لكنها مستمرة في اللعب كالبهلوان على حبل التوازنات الدولية على أمل أن تصل إلى شيء، فإذا أخفقت في ذلك فستكون قد نجحت -على أقل تقدير- في اللعب بعامل الوقت وتأخير المواجهة لأبعد وقت، فالحاضنة السنية في المنطقة تخدم مصالحها استراتيجياً، مهما تغيرت المواقف المرحلية بسبب خطوط المد والجزر الفكري والسياسي والديني في المنطقة.

رابعاً: إيران:

الشيء الأكيد أن ملف إيران محترق دولياً، فهي عاجزة عن الدخول في صراع مع أي دولة من الدول الكبرى خوفاً من فتح ملفها النووي، وهي في ذات الوقت حجر الزاوية في نجاح أو إخفاق مخرجات «الأستانة» على سبيل المثال؛ فإذا وقفت ضد اتفاق «الأستانة» وافتعلت المشاكل لتخريبه فهذا يعني وقوفها ضد روسيا، وإذا رضخت للمخرجات فهذا يعني وقوفها ضد أمريكا. لتجد إيران نفسها اليوم في موازنة سياسية صِرْفَة، وبعيدة تماماً عن العامل الطائفي الذي كانت تدغدغ به مشاعر عبيدها، فروسيا ستضع ثقلاً سنياً عميلاً لها في الشمال لتحقق به التوازن، وأمريكا تستمتع الآن باستخدام الـpkk لطعن تركيا من الخاصرة، وكلاهما بعيدان عن النغمة الطائفية الإيرانية.

هذا الوضع أصاب السياسة الإيرانية بالجمود إلى حين حصولها على عروض أفضل، بل وضمانات أقوى لحماية هذه العروض من روسيا وأمريكا؛ لأنها تعلم تماماً ضريبة اللعب مع الكبار إذا رغبوا بالانتقام، وبالأخص أنها تسبح في عالَم سني تحول من حبها -كثورة إسلامية ومقاومة للعدو الصهيوني- إلى الحقد عليها بسبب دعمها لعشرات المجازر والحروب في المنطقة.

وبالتالي فإن خروجها عن الطاعة يكفي فيه قيام إحدى الدول الكبرى بكسر ميزان التوازن لصالح السنة حتى تختفي إيران وأذنابها من التاريخ والخريطة معاً.

لكن هذا لا يمنعها من المشاغبات عن طريق أذنابها، كقتل بعض الجنود الروس وتقييد الحادثة ضد مجهول، أملاً في قصر حركتهم على معسكراتهم وعدم خروجهم منها.

ليبقى تحييد إيران من أهم وظائف الروس في المرحلة القادمة.

خامساً: نظام الأسد:

موقعه في خريطة «الأستانة» واضح، فسياسيوه كانوا يتابعون نشرات الأخبار ليعرفوا نتائج الاجتماع التحضيري التركي الروسي!!

لكن ما لا يمكن إنكاره أنه لا يزال بيدقاً هاماً في المعادلة السياسية بسبب إصرار كل الدول على الاعتراف بحكومته خوفاً من إفلات الحبل السياسي من يدها، فهو العنصر الأضعف الذي يجب توقيعه على أي اتفاق، وفي نفس الوقت يمكن الضغط عليه بسحب الاعتراف بحكومته.

فهو عنصر عديم التأثير في المعادلة، وفي نفس الوقت مجبور أن يطيع الأوامر الروسية والأمريكية المتعارضة في ذات الوقت.

لكنه سيبقى ما بقي الميزان السياسي في المنطقة دون حسم لصالح أحد الأطراف!!

سادساً: الثوار:

في ظل تفرقهم فهم الخاسر الوحيد في هذه المعادلة، فبقاؤهم مرهون بتوازنات المنطقة، وعمرهم الافتراضي ينتهي بمجرد اختلال بسيط للتوازن السياسي لصالح أحد الأطراف، وذلك لعدة أسباب:

1-لن تقبل أي جهة بتواجدهم الفوضوي في مناطقها في أي حل سياسي محتمل.

2-لا يمكنهم تحقيق حسم عسكري في ظل التشرذم والترهل غير القابل للتطور والتنظيم.

3-استحالة محاربة العالم كله وهم متفقون، فكيف بهم وهم متفرقون.

4-صعوبة الخروج بقرار سياسي موحد عن ممثلين لفصائل عسكرية وسياسية متباينة في توجهاتها، وبالتالي استحالة الرقص على حبل التوازنات الدولية في غياب الإدارة السياسية الموحدة ذات التجربة الحقيقية؛ لا في مؤتمر «جنيف» ولا «الأستانة» ولا في غيرهما.

والقاسم المشترك بين كل هذه الأسباب هو التفرق والتشرذم الذي يتمتعون به، والذي سيدفع الذاهبين إلى «جنيف» و«الأستانة» للتوقيع على فنائهم حتماً، وسيجعل مستقبل الباقين حسماً عسكرياً بسبب خروجهم عن الإرادة الدولية.

بخلاف ما لو كانت لهم قيادة موحدة تستثمر التفاوت في اتجاهاتهم الفكرية والتناقضات السياسية كوسيلة ضغط أثناء التفاوض، بدلاً من أن تكون سبباً للصراعات العسكرية بينهم في إدلب وغيرها.

ليصبح الموقعون مقيدين تماماً بما وقعوا عليه، وليصبح الباقون موضع تجاذب دولي بين دعمهم لتخريب مُخْرَجَات «جنيف» و«الأستانة»، وبين تحريك تركيا الدقيق والحَذِر لهم، والمقيد باتفاقاتها أيضاً.

ليبقى نجاح مخرجات «جنيف» و«الأستانة» مرهوناً مرة أخرى بتركيا وحدها، وقدرتها على:

1-ضبط الاتجاهات المتباينة جداً للثوار حتى لا يقوم بعضهم بتخريب مخرجات المؤتمرات، وتحديداً «الأستانة» التي هي موضع الاهتمام التركي الأكبر.

2-استثمار هذا التباين في المرحلة القادمة للضغط على الأطراف الأخرى لضمان التزامها.

3-تحقيق معجزة توحيد الفصائل، ثم الخروج بقيادة سياسية قوية، وإقناعهم بالانصياع لها.

أو استبدالهم جميعاً!!

فهل سيغير الثوار سياستهم ويتوحدوا، ليحددوا موقعهم في الخريطة المقبلة؟!!

أم يعجبهم فناؤهم؟!!

عن الكاتب

د. إبراهيم عبد الله سلقيني

دكتوراه في الفقه الاجتماعي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس