ترك برس

طوّرت تركيا خلال العقدين الماضيين نموذجها الاجتماعي وبنت شبكة رعاية اجتماعية واسعة النطاق. وبعد أن كانت دولة متأخرة في هذا المجال، أصبحت الآن بين الدول الرائدة في عدة محاور لسياسات الرعاية الاجتماعية، فقد تحول نظام الرعاية الصحية التركي من التسعينيات وبداية الألفية إلى نظام رائد عالميًا، حسب تقرير لصحيفة ديلي صباح تناول تطور نظام الرعاية الاجتماعية في تركيا.

ومن السياسات التي تشملها نظم الرعاية الاجتماعية التركية حاليًا نظام الرعاية الصحية غير المُكلِف والمتاح للجميع الذي أتاح للمرضى فرصة اختيار مقدّمي الخدمة، وتوحيد وتجديد المشافي العامة، وتنفيذ نظام أطباء العائلة، وتوسيع خدمات النظام الصحي المغطاة من قبل الضمان الاجتماعي وزيادة الوصول للجميع للحصول على أفضل معاملة من المشافي الخاصة.

وبناءً على ذلك، زاد رضى المواطنين عن الخدمات الصحية ليصل إلى حوالي 75 في المئة في عام 2016، مقارنة بـ20 في المئة في عام 2002.

امتدت التجربة ذاتها إلى المعونات الاجتماعية، والخدمات الاجتماعية، ومخصصات الضمان الاجتماعي كذلك. ووفقًا لبيانات منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، فإن نسبة الإنفاق الاجتماعي العام من الناتج المحلي الإجمالي صعدت إلى 12.2 في المئة في عام 2012، و13.5 في المئة في عام 2016، مقارنة مع 9.7 في المئة في عام 2000. وكان أكثر من 7.5 في المئة من ميزانية الرعاية الاجتماعية هذه من المكاسب النقدية لخطط التقاعد في عام 2016.

ومنذ عام 2012، تمكنت الدولة من تنفيذ نظام تأمين صحي عام يغطي كل المواطنين والمقيمين الأجانب في البلاد، كإصلاح واسع النطاق يحوز منذ عام 2011 سادس أكبر مخصصات من الميزانية بين كل الوزارات. وزادت ميزانية الخدمات والمعونات الاجتماعية إلى 45 مليار ليرة تركية (تعادل 12.78 مليار دولار) في عام 2017 من أصل 1.4 مليار ليرة تركية في عام 2002.

وكنتيجة مباشرة لتوسع نظم الرعاية الاجتماعية، انخفضت نسبة الفقر المدقع في البلاد من 13 في المئة في عام 2002 إلى نحو 4.5 في المئة في عام 2012، حسبما أشارت بيانات أصدرها البنك الدولي في عام 2015.

وحلّت تركيا ضمن مجموعة التنمية البشرية العالية حسب تقرير برنامج الأمم المتحدة التنموي لعام 2014، بعد ارتفاع مؤشر التنمية البشرية فيها من 0.671 في عام 2005 إلى 0.759 في عام 2013.

الصراع مع خطر الاعتماد على الرعاية الاجتماعية

ولكن كيف سيتأثّر نموذج الرعاية الاجتماعية المتوسع والناضج هذا بالتغير السياسي نحو النظام الرئاسي؟ هناك بعض المؤشرات المبكرة في هذا الصدد.

الأول هو نظام المعونة الاجتماعية الجديد الذي تحضّر وزارة العائلة والسياسات الاجتماعية لتنفيذها. مع النظام الجديد، الذي سيبدأ تنفيذه في عام 2018، وسيُطلب من المستفيدين من المعونة الاجتماعية أن يقبلوا عروض عمل من وكالة التوظيف والعمل التركية. وستكون فرصة العمل المعروضة ملائمة للوضع والموهبة وخطط العمل لكل شخص. وإذا رفض المستفيد عرض العمل ثلاث مرات دون مبرر يتم وقف المعونة الاجتماعية عنه سنة كاملة.

سيحاول النظام الجديد مكافحة مشكرة اعتمادية الرعاية الاجتماعية. ومع تبلور نظام الرعاية الاجتماعية التركي، بدأ يواجه مشاكل ما زالت تعاني منها دول الرفاهية القديمة.

مواءمة الرعاية مع مزيد من المرونة

مؤشر آخر عن مستقبل نظام الرفاه في تركيا يختبئ في الرغبة بإصلاح قوانين العمل، ونظام مدفوعات الفصل والتوظيف الحكومي. وقد صرح عدد من المسؤوليين الحكوميين مثل وزيرة العمل والضمان الاجتماعي بوجود نية لإصلاح نظام مدفوعات الفصل وتنفيذ قوانين عمل أكثر مرونة.

وتُعد مدفوعات الفصل واحدة من أكثر المسائل إثارة للجدل بين الموظفين وأصحاب الأعمال في محاكم العمل. وتسعى الحكومة لإصلاح النظام من خلال بناء صندوق يُدار كصندوق خاص.

أما نظام التقاعد، الذي يُعد أكثر النظم صلابة بين دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، سيخضع كذلك لإصلاحات تهدف إلى تحويل مناصب الخدمة العامة من مناصب مؤمّنة طويلة الأمد يرافقها تدقيق داخلي ضعيف إلى مناصب بعقود سنوية مُراقبة من حيث الأداء. وذلك بهدف إدخال الكفاءة والفعالية إلى الخدمات العامة.

إضافة إلى ذلك، منذ بداية هذا العام، يجري تحويل موظفي القطاع العام والقطاع الخاص في البلاد جبريًا إلى خطة تقاعد خاصة مع خصم بنسبة 3 في المئة من رواتبهم. ورغم وجود خيار الانسحاب من الخطة إلا أن النموذج الجديد يُنظر إليه من قبل العديد كخطوة باتجاه خصخصة نظام الضمان الاجتماعي في المستقبل، وكممارسة مبكرة لتعويد الموظفين على خطط التقاعد الخاصة، التي يجري التعامل بها في الدول المتطورة.

دمج اللاجئين السوريين

عند تقييم المسار المستقبلي لنظام الرعاية الاجتماعية في تركيا، هناك عدة تحديات جدية ينبغي الإشارة إليها. واحد منها هو اختبار اللاجئين. هناك أكثر من 3 ملايين لاجئًا سوريًا في البلاد، ورغم من محدودية نظام الرعاية الاجتماعية في تركيا، فإنها تقدم خدمات أفضل من دول الاتحاد الأوروبي من حيث إيجاد حلول للمشاكل اليومية للاجئين. وفي حين يُعد اللاجئون فئة مستغلة لنظام الرعاية الاجتماعية في أنحاء أوروبا، فقد فتحت تركيا نظام الرعاية الخاص بها للاجئين.

ولكن، ما زالت هناك حاجة إلى سياسات طويلة الأمد بهذا الشأن. ويبدو أن عددًا كبيرًا من اللاجئين سيبقون في البلاد حتى بعد قدوم السلام إلى سوريا في يوم من الأيام. وهكذا، بدلًا من اتخاذ إجراءات سخية في مجال الرعاية الاجتماعية، تحتاج البلاد إلى سياسات طويلة الأمد لاستيعاب ودمج اللاجئين من خلال القطاعين العام والخاص والتطوّع. وهذا تحدٍّ لكل من نظام الرعاية الاجتماعية، وسوق العمل، ومؤسسات الخدمات الاجتماعية.

إدخال سوق العمل للقرن الحادي والعشرين

تتجاوز مشكلة الهجرة في تركيا شريحة السوريين، فقد تحولت إلى مركز اقتصادي في المنطقة بفضل التطور الاقتصادي المستمر لسنوات متتالية، وجذبت المهاجرين من أماكن أخرى. وهي ظاهرة تواجهها الدول الأوروبية منذ فترة طويلة.

وتشير التقديرات غير الرسمية إلى وجود حوالي 150 ألف مواطن أرميني، و100 ألف جورجي، وعشرات الآلاف من الأفارقة، وأكثر من ذلك من الإيرانيين، والكازاخ، والتركمان، والعرب، الذين يعملون ويعيشون في تركيا بصورة غير شرعية.

وبالنظر إلى أن تركيا واحدة من أهم ممرات الهجرة والاتجار غير الشرعي، فإن جزءًا كبيرًا من شبكات الاتّجار تفضل البقاء في فيها.

وبالتالي فإن إصلاح إذون العمل للأجانب ونظام تصاريح الإقامات هو تحدٍّ وشيك. وكخطوة في هذا الاتجاه، بدأت الحكومة التركية بإصدار البطاقة التركوازية، الشبيهة بنظام البطاقة الخضراء الأمريكية، بهدف جذب قوة عاملة عالية الجودة. ومع ذلك، ما يزال نظام البطاقة التركوازية بحاجة إلى عدد من الخطوات الجبارة وإلى بث روح جديدة في السياسات الاجتماعية والاقتصادية، قبل تحوله إلى وسيلة ناجحة لتوظيف الأجانب.

وفي هذا الصدد، هناك حاجة ماسة لوجود وزارة خاصة بشؤون الهجرة للتنسيق بين التدفق الحالي للناس عبر نهج استراتيجي.

وكذلك إصلاح إدارة الرعاية الاجتماعية المقسّمة هي ضرورة أخرى. عمليًا، وزارة الأسرة والشؤون الاجتماعية، ووزارة العمل والضمان الاجتماعي، ومؤسسة الضمان الاجتماعي، ووكالة العمل والتوظيف، والبلديات وإدارات المناطق تؤدي خدمات رعاية اجتماعية متعددة دون تكامل أو تنسيق أعلى.

ومع توسع دولة الرفاه في تركيا، فإنها بحاجة إلى إيجاد نماذج إدارية فعالة لمستقبل شبكة الرعاية الاجتماعية الخاصة بها. تُدرك دول الرفاه الأوروبية جيدًا أنه لا يمكن تقديم أفضل رفاهية للمواطنين دون وجود أفضل الترتيبات التنظيمية. ليس فقط إصلاح الإدارة العامة، ولكن بناء علاقات قوية بين القطاعين العام والخاص والمتطوعين مهمة مهمة جدًا.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!