على يمين الصورة فتح الله غولن وفي المربع الأيسر محمد دوغان لحظة اعتقاله

ترك برس - ديلي صباح

كتاب يلدراي أوغور: تبدأ قصّتنا في مدينة "بارلا Barla" شمال غرب تركيا. فبعد انتفاضة الشيخ سعيد، نُفي بديع الزّمان سعيد النّورسي إلى بارلا على ساحل بركة "إغدير Eğirdir". وبعد عام كامل، زار النّقيب "إبراهيم خلوصي يحياغيل" الشيخ ليكون المريد الأوّل له. وُلِد محمّد دوغان - أو الملّا محمّد كما يُعرف في المناطق ذات الغالبية الكردية - في عام 1943، ويرأس حركة النّور، التي تتبع تعاليم تلميذ بديع الزّمان خلوصي يحياغيل. وكثيراً ما تشير جماعته في الكتب التي تنشرها إلى "رسالة النّور (التي ألّفها بديع الزّمان)". وعلى خلاف المجموعات الأخرى، تنأى جماعة النّور بنفسها عن الديمقراطية، كما يفضّل رجالها ارتداء العباءات وإطلاق اللحية، وترتدي نساؤها الملاءات والعباءات السوداء الطويلة. وتنشط جماعة النّور في الأنشطة والحوارات العامّة.

أنشأت مجموعة انشقّت من صحيفة "يني آسيا Yeni Asya" دارَين للنّشر باسم "تهشية Tahşiye" و"راحلة Rahle" في 1 حزيران/ يونيو 2004.

في حين أنّ جماعة محمّد دوغان لا تُسمّي نفسها "منظمة تهشية"، فإنّ آخرين يسمّونها بهذا الاسم. وتُعدُّ حركة فتح الله غولن أهمّ أهداف هذه المجموعة من خلال الكتب التي تنشرها عن رسالة النّور. فهي تُعارِض في كتبها قيام حركة غولن بجمع الصدقات، وانخراطها في الحوار بين الأديان وموقفها من عدد من المواضيع الدينية. كما تُعارض "تهشية" فهم حركة غولن لمسألة المهدي. وبعد انتخابات 29 آذار/ مارس 2009 تغيّر كلّ شيء. في 6 نيسان/ أبريل 2009 تمّ رفع تسجيل فيديو للخطبة الأسبوعية لفتح الله غولن على موقع "Herkül.org".

تحدّث غولن في خطبته عن الأفخاخ التي يحاول البعض نصبها له قائلاً: "يمكنكم على سبيل المثال أن تختلقوا شيئاً اسمه حزب الضّراوة (Hizbulvahşet). ماذا بعد؟ بعد حزب الضراوة هذا اختلقوا القاعدة. وغداً ربّما يفتعلون أموراً أخرى. يمكنهم على سبيل المثال، اختلاق شيء اسمه تهشية. وإذا تمكّنوا من ذلك، لا سمح الله، ربّما يحاولون دفع هؤلاء النّاس للاختلاط مع المسلمين الحقيقيين، المسلمون الذين يقرؤون الكتب. ربّما يسلّحون أنفسهم لزيادة قوّتهم. وربّما يعلّقون صورة الشخص الموجودة على كتبهم على جدران بيوتهم".

وأضاف غولن: "نحن نحذّر (حركة النّور)، من أنّ البعض قد يسمّون أنفسهم مجموعة تهشية. ثمّ يعمدون إلى حمل رشّاشات (كلاشنكوف) AK-47s". في الحقيقة كانت المجموعة الّتي أشار غولن إلى احتمال وجودها، موجودة على أرض الواقع منذ عدّة سنوات. فقد أُنشِئت دار نشر "تهشية" منذ سنوات، لكنّ غولن كان أوّل شخص يصفهم باسم "أتباع حركة تهشية Tahşiyeciler". تَلَت خُطبةَ غولن الغريبة سلسلة من التطورات الغريبة أيضاً. أولاً، نشرت صحيفة زمان بالمانشيت العريض قصّة خبريّة مبنيّة على خطبة غولن بعنوان "مؤسسو الجماعات الإرهابية متورّطون في مؤامرة جديدة". أشارت القصة إلى أنّ غولن حذّر أتباعه من أنّ أولئك الذين يؤسّسون جماعات إرهابية تخدم مصالحهم الخاصة قد يكونون متورّطين في "مؤامرة جديدة".

ظهر الاتّهام الذي وجّه إلى جماعة تهشية بتورّطها في مؤامرة كذلك في المسلسل التلفزيوني "تركيا واحدة Tek Türkiye" الذي بُثّ على قناة "أس تي في STV" حيث يناقش مجلس الظّلام في المسلسل هذه المؤامرة. وفي 10 نيسان/ أبريل، جاء دور الكاتب في صحيفة زمان حسين غولرجه، ليكتب تحت عنوان "لماذا حذّر غولن؟". وبعد خمسة أيام قام أحمد شاهين الذي يكتب قصصاً خبرية دينية في صفحة العائلة في جريدة زمان، بالكتابة في نفس الموضوع. وبعد أسبوع، كانت المؤامرة المحاكة حول جماعة تهشية مرّة أخرى من المواضيع التي تناولها مسلسل "تركيا واحدة". فقد دارت الحوارات في البرنامج التلفزيوني داخل مجلس الشر، حيث يجتمع الأشرار في المسلسل كما يلي:

- "هل تذكر الجماعة التي أنشئت، لكنّها كانت مكشوفة قبل أن نستغلّها؟ ماذا كان اسمها؟ تهشية أو تهشيدات؟ إنّهم مكشوفون. يجب أن لا نترك هذا الأمر. لنغيّر هذا الاسم ونُتابع. هل سنظل نحن من يوفر الأسلحة دائما؟ ليوفّروها هم".

- "ماذا يجب أن يكون اسم هذه المنظمة الدينية؟".

- "راحلة أو شيء من هذا القبيل. شيء له رمزيّة دينية".

لم يكن ورود كلمة راحلة أمراً من قبيل الصّدفة. فقد كانت دار النّشر الأخرى التي أسّسها محمد دوغان تسمّى راحلة.

استَخدَم هذا الحوار من المسلسل التلفزيوني الكاتب في صحيفة "بوغون Bugün" اليومية نوح غونولطاش في مقالة له في 26 نيسان/ أبريل 2009 تحت عنوان "مجموعة تهشية قد كُشفت، لنبحث عن اسم جديد".

ما يلفت النظر هو أنّه بعد شهرين في 12 حزيران/ يونيو 2009، نشرت صحيفة طرف اليومية خطّة العمل القتالية للرّجعيين تحت عنوان "خطّة لإنهاء AKP وغولن". AKP هو اختصار يستخدمه معارضو حكم حزب العدالة والتنمية (AK Party).

جماعة تهشية، التي وصفها فتح الله غولن بأنّها تهديدٌ ودأبت مقالات صحيفة زمان ثمّ سيناريوهات مسلسلات STV على التخويف منها في مسلسل "تركيا واحدة"، باتت الآن تحت المجهر للتّحقيق بشأنها من قبل القضاة والشّرطة. وفي 22 كانون الثاني/ يناير 2010 بدأت العملية. طوفان إرجودير وموتلو إكيزوغلو كانا هما الضّابطان اللّذان أطلقا العمّلية حينها، وقد تمّ اعتقالهما الأحد الماضي 14 كانون الأول/ ديسمبر 2014. اعتقلت الشرطة في حينها 122 شخصا في عدد من المدن، بما فيهم محمد دوغان، الذي كان أعمى ويعاني من مرض "التّصلّب المتعدّد multiple sclerosis". ومن بين أعضاء المجموعة الذين تمّ اعتقالهم كان هناك قضاة وموظّفون في الدولة وأئمّة.

نقلت الصحف في حينها القصّة على أنّها عملية لتنظيم القاعدة. وقال محافظ إسطنبول في حينها معمّر غولير في تصريح له بشأن العملية: "لقد وجدت الشرطة أدلّة تربط بين بعض أعضاء المجموعة والقيادي المسؤول عن أوروبا في تنظيم القاعدة وتركيا وسوريا، لؤيّ سقّا وحبيب أقطاش الذين يشتبه في تورّطهم في الهجمات التفجيرية في إسطنبول في الفترة 15-20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2003 وقتلوا في وقت لاحق في العراق".

ومن بين التصريحات التي أطلقتها شرطة إسطنبول للإعلام كانت هناك معلومات خاصة محدّدة عن المعتقلين نادراً ما يتمّ إعلانها في عمليّة ضدّ مجموعة إرهابية. على سبيل المثال، نقلت صحيفة "حرييت" اليومية في تقرير مبنيّ على مقالة لوكالة "دوغان" الإخبارية القصّة كما يلي: "تمّ حلّ الجماعة المكوّنة من 57 شخصاً، والتي كان بينها أستاذ وإمامان، و"مثليّان وعاملان في مجال الدعارة"، في 22 كانون الثاني نتيجة لعملية نظّمها مكتب مكافحة الإرهاب في قسم الشرطة، يُعتقد أنّ هذه العمليّة مستوحاة من الكاتب في صحيفة "وقت Vakit" مصطفى كابلان".

وكما ظهر في وثائق ويكيليكس، فقد كانت تبادلت السفارة الأمريكية في أنقرة الرأي مع الشرطة الوطنية التركية وأرسلت البرقية التالية عن العملية إلى مقرّ الشرطة في 27 كانون الثاني 2010: - دحضاً لتقارير الإعلام التركي وتناقضاً معها - أبلغتنا الشرطة الوطنية التركية TNP بأنّ تحقيقاتها بشأن المعتقلين مؤخراً والّذين زعم أنّهم ينتمون لمجموعة إسلامية متطرفة لم تُظهِر أي خطط أو نوايا للهجوم على المصالح الأمريكية في تركيا.

قامت الشرطة الوطنية التركية باعتقال أو احتجاز ما يقارب 130 شخصاً في عمليات منفصلة في كل أنحاء البلاد، بدءاً باعتقال 13 شخصاً في 15 كانون الثاني في أنقرة. وأشارت كل من الشرطة الوطنية التركية والصّحافة التركية المروّجة للأخبار المثيرة إلى المعتقلين على أنّهم أعضاء في القاعدة. وبتقديرنا المبني على ضابط اتّصال في جهاز الشرطة الوطنية التركية ووكالات أمنية أخرى، فإنّ المشتبه بهم لا يُعتقد بامتلاكهم صلات بتنظيم القاعدة، وبالأحرى، فإنّ مصطلح "القاعدة" يستغلّ من قبل الإعلام والشرطة لوصف من يشتبه بأنّهم متطرّفون إسلاميون بغض النظر عن انتمائهم التنظيمي، أو ما إذا كان لهم انتماء تنظيمي أصلاً. ويبدو لنا أنّ الاحتجاز والاعتقالات هي مجرّد تحرّكات استباقية. وربّما كانت الشرطة التركية تهدف إلى تعطيل الخلايا الإسلامية الوليدة وإعلام أعضائها بأنّ تحركاتهم هي قيد المراقبة. نتفهّم أنّ التّهم ضدّ عدد من المحتجزين ربّما يصعب إثباتها. كما نعتقد أنّ معظم المحتجزين تمّ إطلاق سراحهم وأنّ من بقي منهم في الحبس تمّ اتّهامه بشكل رسمي.

أعلنت الشرطة للإعلام معلومات تفيد بأنّ بعض الأعضاء كانوا مثليّين. كما ورد أنّ الشرطة عثرت على ما يلي في عدد من المدن: ثلاث قنابل يدوية، قنبلة دخانية، سبع مسدّسات، مسدّسان فارغان، مسدّس هوائي واحد، 1.382 طلقة، 18 بندقية صيد، منظار ليزر، أداة إلكترونية تستخدم في بناء الصّواعق، سبع خناجر، أربع سيوف مخبّأة في عِصيّ للمشي، 31 جهاز كمبيوتر مكتبي ومحمول، 53 قرصاً صلباً، سبع مسجّلات صوت وعدد كبير من الوثائق التنظيمية.

حدث كلّ شيء كما وصفه غولن وكما ورد في مسلسل "تركيا واحدة". ومع كلّ ذلك، تمّ إثبات تورّط عدد من ضبّاط الشرطة المرتبطين بحركة غولن بعدد مذهل من الأخطاء خلال الاقتحامات.

فقد وُجِدت القنابل اليدوية الثلاثة، الّتي كانت أساس الاتّهام بالانتماء إلى القاعدة، في منزل كان يستخدم كمدرسة تحضيرية في منطقة "بهتشلي إيفلر" في إسطنبول. ومع ذلك، بدأ تفتيش الشرطة قبل وصول مدير المدرسة. ولم يتمّ توثيق اللحظة التي تمّ فيها العثور على القنابل. وكان الشخص الذي يرافق الشرطة خلال البحث يمارس الوضوء حينما تمّ العثور على القنابل. الفضيحة الحقيقية كانت أنّ الشرطة لم تجد أي بصمات للمشتبه بهم على القنابل. فقد كانت البصمات الوحيدة لرجال الشرطة الذين كانوا مرتدين قفّازات وهم يقومون بالتّفتيش.

وعند سؤال ضبّاط الشرطة عن كيفية وصول بصماتهم هذه إلى القنابل، أجابوا بأنّه "ربّما كانت القفّازات مثقوبة". وقد تمّت الإشارة إلى عدم قانونية الأدلة المدرجة ضدّ المجموعة في تقرير أعدّه أستاذا قانون مشهوران هما آدم سوزوير وباهري أوزتورك. ومع ذلك، استغرق الأمر 17 شهراً حتّى مثول محمد دوغان وبقية المجموعة أمام المحكمة حيث تمّ إطلاق سراحهم في الجلسة الأولى. وتمّت مكافأة المدّعي العام المسؤول عن القضية بانتخابه عضواً في المحكمة العليا للطّعون. وكانت عملية يوم الأحد نتيجة لشكاوى قانونية تقدّم بها ضحايا هذه القضيّة.

التّحقيق في قضية "تهشية"، والحقائق وراءه تمّ تجاهلها من قبل كلّ أولئك الّذين ادّعوا تمثيل حرية الإعلام، وربّما تعامل معها الكتّاب من أنحاء العالم باعتبارها أحداثاً من رواية للكاتب الأمريكي دان براون، وهي في الحقيقة أظهرت أقوى الأدلّة على اختراق حركة فتح الله غولن للدّولة التركية. فقد أدّت عبارات مرّرها غولن من بنسلفانيا إلى ردّة فعل من قبل وسائل الإعلام التابعة له، ليلحق بها أتباعه من رجال الشرطة والقضاء. تُظهِر هذه القضية بكلّ وضوح الهيكل الهرمي المسيطر في حركة غولن.

كانت هذه هي المرة الأولى التي رأينا فيها فتح الله غولن بالتّحديد، وليس أي أحد رجاله في سلكَي الشرطة والقضاء، يقود عمليّة. لم تتبع وسائل الإعلام أي معايير صحفيّة، وبالأحرى، عملت كأنّها هي القاضي وهيئة المحلّفين. تملك حركة غولن خبرة كبيرة في مثل هذه القضايا، لكنّ هذه القضية كانت الأولى التي تثبت فيها حماقتهم وثقتهم المفرطة بأنفسهم. ولأولئك الذين يودّون رؤية الحقيقة، هذه القضيّة هي الدّليل الأوضح على وجود الكيان الموازي الّذي أسّسه فتح الله غولن. وليست هناك أي حاجة لتقديم أي تفاصيل عن ذلك.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!