د. إبراهيم عبد الله سلقيني - خاص ترك برس

أهدت أمريكا التنظيمات الإرهابية في سوريا آلاف العربات العسكرية المدرعة وشاحنات الأسلحة ومضادات الطيران ومضادات الدروع ومجموعة من التقنيات العسكرية المتطورة، بل زودتها بأطنان من الخرسانة والحديد والخبرات الهندسية العسكرية لإنشاء مئات الكيلومترات من الخنادق والأنفاق والتحصينات العسكرية التي تجعل دخول الجيش التركي غايةً في التعقيد والصعوبة.

كل هذا الكرم الأمريكي وما رافقه من الدعم الغربي اللامحدود للمنظمات الإرهابية بما يكفي لحرب طويلة الأجل بين تلك المنظمات وتركيا؛ بهدف إنهاك تركيا عسكرياً وتدمير آلتها العسكرية، وإنهاكها اجتماعياً بآلاف الشهداء، واقتصادياً في مستنقع تعلم لحظة دخوله وتجهل الوقت والكيفية التي ستخرج بها من هذا المستنقع.

فلما صبرت تركيا كثيراً حتى انفضح التواطؤ الغربي مع الإرهاب، وأبرأت ذمتها كاملة حتى لم يبق للغرب ذريعة سياسية أو إعلامية يتعلقون بها، ولما أصبح التدخل التركي أمراً واقعاً لا مفر منه دخلت أمريكا وروسيا وأوروبا في مسرحية سياسية جديدة بقدرة قادر، ووافقت على التدخل التركي في عفرين!!

فلعلها توقعت أن تركيا سيسيل لعابها وستكرر التجربة القبرصية وتجتاح عفرين في ست ساعات، لتحصد بذلك آلاف الشهداء ولا تخرج من هذا المستنقع أبداً.

هذا عدا عن الضجة الإعلامية التي سيفتعلها الغرب وأذنابه لكل ضحية من المدنيين، في حين أنهم صمتوا صمت القبور لمئات الآلاف من الضحايا المدنيين في مجازر الأسد، وعشرات آلاف الضحايا من الاجتياح الأمريكي للرقة، وعشرات الآلاف الأخرى من اجتياح الحشد الطائفي للموصل، بل ولم يسمع بالقتلى المدنيين في مدينة الباب الذين استشهدوا بسبب قيام داعش بتركيب عدد من المفخخات الضخمة في مقراتهم بين المدنيين؛ سكتت عن كل أولئك القتلى في المنطقة لأنهم جميعاً من السنة. فالإعلام الغربي المريض والمنافق والداعم للأنظمة الدكتاتورية فقط لا يرى المجازر بحق ملايين الشعوب المقهورة حول العالم، لكنه يسلط الضوء بقوة، ويسخر كل طاقته الإعلامية لبضعة قتلى استشهدوا بالخطأ بسبب تترس الإرهابيين داخل المجمعات السكنية للمدنيين.

والأعجب أولئك الناشطون والسياسيون والمشايخ الذين يقيمون في أمريكا وأوروبا ووقفوا مع داعش من قبل أو يؤمنون بالفكر التكفيري، لكنهم اليوم يرفضون ويهاجمون الدخول التركي إلى عفرين للقضاء على تلك المنظمات الإرهابية؛ وكأنهم كانوا مسرورين من قبل بانسحاب داعش من مساحات شاسعة لحساب الأسد دون تفخيخها، بينما فخخت بيوت المدنيين في مدينة الباب، وسعيدين بوقوف الإرهابيين مع الأسد في حصار حلب، والمجزرة التي قاموا بها في تل رفعت، وبرفعهم للأعلام الأمريكية في تل أبيض والروسية في عفرين، بل هم في غاية السرور من تجنيد الأطفال والنساء بالإكراه، وفرض الأتاوات الباهظة على تجار عفرين لتمويل عملياتهم الإرهابية.

فبمعارضتهم للدخول التركي لا هم وقفوا مع الإسلام بوقوفهم مع الملاحدة والباطنيين، ولا هم وقفوا مع الثورة بدعمهم لحليف الأسد الذي لم يغلق مؤسسات الأسد ولا لساعة واحدة في عفرين، ولا هم وقفوا مع الحرية بدعم عملاء واضحين صريحين للغرب والشرق، ولا هم وقفوا مع الأكراد والقضية الكردية بالدفاع عن إرهابيي قنديل الذين قهروا الشعب الكردي في عفرين وانتهكوا حرماته!!

هل انفجر اللغم الأمريكي بتركيا؟!

على خلاف المتوقع؛

1- لم تندفع تركيا في حملتها العسكرية، وعملت بقاعدة دبيب النمل في التقدم خطوة خطوة، فأصبح المسؤولون الغربيون ينادون بالإسراع في العملية العسكرية، وتناسوا أن حملاتهم لقتلنا وتثبيت عروش الدكتاتوريين في بلادنا لم تتوقف من قرن مضى.

2- ضربت تركيا المخابئ الجبلية الوعرة غرب عفرين والتي يفترض أن تكون الحصن الأخير للإرهابيين لإطالة الحرب أطول فترة ممكنة، ثم حررتها حتى لا يرجعوا لها أبداً، وهذا سيختصر زمن الحرب كثيراً؛ فلم يعد للإرهابيين قواعد خلفية يلجؤون إليها، مما يقلل فرص الاستمرار والمقاومة.

3- استمر الجيش التركي بضرب مقرات الإرهابيين وتحصيناتهم الأمريكية الصنع لأسبوع كامل، وحصد المئات من عناصرهم وقياداتهم، أو حيدهم كما يقول الإعلام التركي؛ وكل ذلك دون وقوع أي إصابات بين المدنيين، سوى الشهداء المدنيين الثلاثة الذين قضوا أمس بسبب بدء الإرهابيين بعمليات التترس بالمدنيين.

4- افتضاح الصورة الحقيقية للإرهابيين بعد ثبوت تجنيدهم لأطفال والنساء بالإكراه، وقهرهم للشعب الكردي في عفرين، وتسلط قيادات قنديل المدرجين على قوائم الإرهاب الدولية على قيادات المجموعات الإرهابية المحلية، واعترافهم بالقيام بعمليات إرهابية في العمق التركي.

5- اعتراف الإرهابيين بالعمالة لكل دول العالم عدا مصالحهم الوطنية والقومية، فقد اعترفوا بالعمالة لأمريكا وروسيا قبل أن تغدرا بهم، وطلبوا دخول ميليشيات الأسد إلى عفرين.

6- لجوء عصابات الإرهابيين لاستراتيجية حرب العصابات، والتي تعني التترس بالمدنيين الكارهين لهم ابتداءً بسبب الأتاوات والتجنيد الإجباري للقاصرين من الذكور والإناث.

7- تركيا لم تبدأ العملية إلا بعد تفكيك جميع التشكيلات الإرهابية على أراضيها، مما أفقدها قدرتها على الضرب في العمق التركي، والأنكى من ذلك أن عدم خروج أي مظاهرة (ولو واحدة) داخل تركيا أو العراق أو حتى إيران لدعم الإرهابيين في سوريا أوصل رسالة واضحة بأن أكاذيب الإرهابيين أصبحت مكشوفة ومفضوحة للشعب الكردي.

كل ما سبق سيجعل من استمرار الحرب لفترة أطول سبباً لزيادة نقمة شعب عفرين (الكردي والعربي) على الجماعات الإرهابية المتسلطة عليه، وعلى نظرتهم العرقية المتطرفة والمرفوضة تماماً من شعب عفرين الفلاح المسالم المضياف الذي آوى آلاف العرب اللاجئين طوال سنوات الحرب، عدا عن علاقات الزواج بين الطرفين التي يصعب معها التمييز بين العربي والكردي هناك، وهذا سيحول هذه المجموعات الإرهابية بشكل متدرج إلى فئة منبوذة اجتماعياً.

فرقة هندسة السياسة التركية أوجدت معطيات جديدة فككت اللغم الأمريكي الذي كانت تحلم به أمريكا في عفرين. وهذا ولّد سؤالاً لا يقل أهمية عن المعطيات السابقة، وهو:

ما نتائج عملية عفرين والوضع العسكري الجديد؟!!

تنظيف عفرين يعني تطهير منبج تلقائياً، وهذا سيلقي بظلاله السياسية والعسكرية والاقتصادية على كامل المنطقة، بل وسيغير التوازنات الدولية أيضاً، وهذا من عدة وجوه:

1- تفكيك التشكيلات الإرهابية (الـpkk) والمتطرفة (داعش) وانهيار الميليشيات الطائفية (حزب اللات) في سوريا سيجعل الساحة نظيفة من الميليشيات العميلة للشرق والغرب إلى شمال حمص، وهذا سيسمح لعناصر الجيش الحر (إذا توحدوا) بإعادة ترتيب صفوفهم وتغيير الخريطة.

2- بقاء المنطقة مكشوفة أمام تركيا لا يعني التوغل التركي إلى هذا المدى، لكنه يسمح لها برسم السياسة المستقبلية لهذه المناطق بما يخدم آمال الشعوب المتطلعة للحرية والتخلص من الاستبداد.

3- ستطلب روسيا وأمريكا التدخل التركي لإيقاف الحرب التي أصيحت مصدر خسارة لكل الأطراف، وهذا سيسمح لها أكثر بفرض شروطها لإغلاق الملف وتحقيق بعض ما عجز عنه الإخوة الفُرَقاء المتشرذمون.

4- ربما ينشأ حكم ذاتي في الشمال السوري شبيه بالحكم الذاتي الذي كان في شمال العراق، لكنه أكثر تماسكاً؛ لاستفادته من التجارب الخاطئة التي كانت في شمال العراق.

5- ستذوب تماماً النعرات الدينية والطائفية والعرقية واللغوية والفؤية التي يغذيها الغرب في المنطقة، وسيسود مفهوم الاتحاد والتماسك الاجتماعي استناداً للمفاهيم المشتركة الجامعة التي لا يختلف عليها اثنان.

6- استقرار الشمال السوري برعاية وتوجيه تركي سيولد حركة اقتصادية وصناعية وتجارية منقطعة النظير في المنطقة، نتيجة ضخامة رؤوس الأموال نائمة في تلك البقعة، ونتيجة الكفاءات والخبرات الصناعية العالية أيضاً.

7- إن انهيار قوى الرأسمالية الغربية في أي لحظة سيفتح المجال أمام تبدلات دولية استراتيجية كبيرة، في غياب العملاء والخونة وتنظيماتهم. والحقيقة الراسخة أن أمريكا حفرت لتركيا حفرة كبيرة، لكن أمريكا هي التي وقعت فيها، وزرعت لغماً شديد الانفجار في المنطقة، لكنه انفجر فيها.

عن الكاتب

د. إبراهيم عبد الله سلقيني

دكتوراه في الفقه الاجتماعي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس