عصمت بينارك مدير عام إدارة وثائق الدولة التركية - ترجمة كمال أحمد خوجة أوغلى - خاص ترك برس

من المعروف على مسرح التاريخ أن الهون وبعض القبائل التركية كانت لهم علاقات مع الأرمن، وأن هذه العلاقات استمرت وتكاثفت بصورة خاصة في عهود السلاجقة والعثمانيين. وبعبارة أخرى فإن العلاقات بين الأتراك والأرمن تعود إلى ماض سحيق.

والتوصل إلى تقييم سليم حول العلاقات التركية - الأرمنية، يتطلب منا البحث فيه خلال فترة زمنية قدرها ألف عام ابتداء من ظهور السلاجقة في الأناضول.

وصول الأرمن إلى الأناضول

فقبل الفتح السلجوقي كانت في شرقي الأناضول بجهات "عاني" و"بغراد" و"وان" إمارات تتبع بيزنطة وتعرف بـ" أردزوروني". إلا أن بيزنطة ألغت هذه الإمارات وهجّرت أهلها إلى الأناضول. فأما الذين هُجّروا إلى "كيليكيا" فقد استغلوا الحملات الصليبية وأسسوا مملكة كيليكيا الأرمنية. ومن المعروف أن نهاية هذه المملكة كانت على يد المماليك عام 1375.

وبعد عام 1070 أصبحت الأراضي التي يسكنها الأرمن تحت حكم السلاجقة، ثم الخوارزميين والإيلخانيين والمغول والقره قيون، وبعض منها تحت حكم الصفويين.

وبالفتوحات التي تمت في عهد السلطان سليم الأول ومن بعده السلطان سليمان القانوني صارت هذه الأماكن تحت حكم العثمانيين. وعندما سيطر العثمانيون على هذه الأراضي لم تكن هناك أية دولة أرمنية مستقلة في الشرق منذ أربعمائة وسبعين عاما وفي الجنوب منذ مائة وخمسين عاما.

أصول الأرمن

ومن حيث الأساس، لم يكن الأرمن من سكان الأناضول الأصليين. وأغلب الاحتمال أنهم جاءوا من "تراقيا" إلى الأناضول في أواخر القرن السادس قبل الميلاد، واستقر خليط من قبائل "تراك - فريغ" في بلاد "أورارتو". والأرمن من الناحية العرقية خليط من "النورديك" و"الألبين" نشأ من المصاهرة بين السكان المحليين والهنود الأوروبيين. وبعبارة أخرى فإنهم ليسو عرقا متجانسا. أما لغة الكتابة عندهم فقد ظهرت بعد اعتناقهم النصرانية.

أما الأماكن التي سكنها الأرمن فكانت عبر التاريخ على الطرق بين آسيا وأوروبا وبين القفقاس والأناضول والقفقاس وسوريا. تلك الأراضي بسبب وضعها الاستراتيجي والجغرافي كانت مسرحا دائما للصراع بين الدول التي الأناضول وإيران وقفقاسيا. وكانت النتيجة أن تحدد مصير الشعب الأرمني في هذه الأراضي التي سكنها وعاش فيها.

وكما بينا سابقا، فإن الأتراك عندما فتحوا الأناضول لم تكن فيها دولة أرمنية مستقلة.

وفي الفترة التي سبقت الفتح التركي للأناضول كان الأرمن موضعا للصراع الدائم بين بيزنطة وإيران وبين بيزنطة والدول الإسلامية؛ وأرغموا على الهجرة لأسباب سياسية واختلافات مذهبية.

الأرمن في ظل الحكم العثماني

بينما كان الأرمن أصحاب أرض تحت الحكم التركي، وأصبحت لهم حرية العيش وممارسة اللغة والعقيدة ضمن إطار الأحكام الإسلامية.

فالأتراك عاملوا غير المسلمين في البلاد التي فتحوها ضمن الحقوق التي يعترف بها المسلمون لأهل الذمة وفي إطار من التسامح والمرونة التي جاوزت ذلك العصر بمراحل كثيرة. حيث أعطوا لهم الحرية الكاملة في لغتهم ودينهم وعقيدتهم وكافة أنواع العلاقات  بينهم.

حتى إن السلطان محمد الفاتح عندما فتح إسطنبول اعترف ببطريرك الروم زعيما للنصارى، ومنح للبطريرك وضعا يوازن فيه بين أتباعه وبين الدولة.

وفي إطار هذا الوضع استطاعت الفئات النصرانية الحفاظ على هويتها الدينية والقومية بكامل حريتها. خاصة إذا أخذنا التعامل السائد في أوروبا تلك الفترة بعين الاعتبار فسنجد أدلة لا يمكن إنكارها في أن السماحة وحسن التعامل تجاوزت حدود ذلك العصر.

من المعروف أن المسلمين واليهود لم يستطيعوا العيش في إسبانيا بعد عام 1492. ووجدوا الحل في اللجوء إلى الأراضي العثمانية. وفي عام 1572 شهدت فرنسا مذابح "سانت بارتلمي". كما عانت أوروبا من الحروب الدينية حتى عام 1648. بينما نعم غير المسلمين في ظل الحكم العادل للدولة العثمانية بحياة ملؤها السعادة والأمن والطمأنينة.

وحينما انقسمت إمارات الأناضول بعد معركة أنقرة عام 1402 بقيت بلاد الروم وأكثرية سكانها حينذاك من النصارى موالية للدولة العثمانية وفضلت الحكم العثماني على حكم البلقان.

وقد أسس السلطان محمد الفاتح بعيد فتحه إسطنبول البطريركية الأرمنية إلى جانب بطريركية الروم عام 1461[1].

الأرمن "الرعايا المخلصون" في الدولة العثمانية

والأرمن على مر القرون في ظل الدولة العثمانية كانوا محل الثقة في بعض الأوقات بحيث عينوا في مهام خطيرة. والواقع فإن كل من يقبل أن يكون في عداد الرعايا بمفهوم الدولة العثمانية له إمكانية الوصول إلى أي منصب من غير تفريق بين الناس في الأديان والأعراق. ومما لا شك فيه أن الأرمن الذين عرفوا "بالرعايا المخلصين" في الدولة العثمانية، عاشوا في هذه الفترة أكثر الأعوام استقرارا وطمأنينة في تاريخهم.

وقد عمل الأرمن في قراهم وبلداتهم شرقي الأناضول عموما بزراعة أرضهم وبالصناعات المحلية وبالتجارة على نطاق ضيق. أما في المدن فكانت لهم نشاطات كثيرة كالتجارة الداخلية والخارجية والصرافة والتمويل والتعهدات والتوريدات وغير ذلك من الأعمال ومستوى معيشتهم أعلى من مستوى معيشة الأتراك، هذا المستوى الذي لم يحدث أي انزعاج أو تبرم لدى الأتراك والمسلمين، وعاش الأرمن منذ تأسيس الدولة العثمانية جنبا إلى جنب مع الأتراك في أخوة وهناء، وتمتعوا بالحرية الدينية في تسامح وتفاهم.

إن عدم وجود الوحدة المذهبية فيما بينهم وعدم تشكيلهم الأكثرية في الأماكن التي يعيشون فيها بالإضافة إلى الحكم التركي المتسم بالتسامح أعطى طائفة الأرمن صفة أكثر المجتمعات التئاما بالأتراك. ونتيجة لذلك صار الأرمن أكثر الأقليات تبنيا للثقافة التركية.

وبسبب انسجامهم مع الثقافة التركية عينوا في مختلف مناصب الدولة بعد ثورة الروم عام 1821؛ وسمح لهم في عهد محمود الثاني بوضع "الطغراء" على قبعاتهم دليلا على إخلاصهم. وبعد إعلان الخط الهمايوني عام 1839، عينوا في مناصب في القصر وفي وزارة الخارجية، وبعد فرمان الإصلاحات عام 1856 جيء بهم إلى مناصب الدرجة الأولى كالوالي والوالي الأول والمفتش والسفير وحتى الوزير.


[1] لمزيد من التفاصيل عن العلاقات التركية الأرمنية ر:عبد الرحمن جايجي، "حقائق في العلاقات التركية الأرمنية"؛ حلقة دراسية عن مشاكل تركيا ضمن التطورات التاريخية، أنقرة 8-9 مارس/ آذار 1990، ص 75-114 باللغة التركية، وانظر: نجاة غوينوج، الأرمن أيام الحكم العثماني، إسطنبول، 1983؛ سعدي قوجاش، الأرمن عبر التاريخ والعلاقات التركية -الأرمنية، أنقرة، 1967؛ أسعد أوراس، الأرمن في التاريخ والمسألة الأرمنية، إسطنبول، 1987؛ صلاحي رامسدان صونييل، The Ottman Armenians,London؛ عزمي سوسلى، الأرمن وحادثة تهجير عام 1915، أنقرة، 1990.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس