د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

بتاريخ 27 أبريل سنة 1913م ألقى إسماعيل حقي بك محاضرة بدار الفنون في إسطنبول بعنوان "كيف تَعرفنا أوروبّا ؟"، وحاول الإجابة على الأسئلة الثلاث التالية: كيف تفهمنا أوروبّا؟ وهل من الضروري أن نعرّف بأنفسنا للأوروبيين؟ وكيف ينبغي على الأتراك أن يعرّفوا بأنفسهم لدى أوروبا؟  

يقول المحاضر إن ما يورده من معلومات في محاضرته ليس مستقى من الكتب والمراجع المكتوبة بل هو وليد جولات ومشاهدات رآها بنفسه وتجارب عايشها في الكثير من البلدان الأوروبية. وقد ذكر تلك التجارب وعبر عن دهشته الكبيرة واستغرابه الشديد لحجم التشويه وحجم الانحراف الذي ينظر به الأوروبيون إلى الإنسان التركي وإلى الثقافة التركية وإلى الحضارة التركية، وهي صورة ليست فقط بعيدة عن الواقع والحقيقة بل في تناقض صارخ معها.

 وأورد إسماعيل حقي عددا من الأمثلة على ما يطرحه في محاضرته. ومن بين تلك الأمثلة أنه زار في سنة 1911م إحدى المدارس الابتدائية في لندن، يقول: وتم التّرحيب بي، ثم تمّ إطلاعي على قسم الرّسوم والفنون اليدويّة لعدد من الفنانين الانكليز، وبعد أن قُدّمت لي فكرة عن أهمية المتاحف  في لندن وثرائها باللّوحات والرّسوم التفت إليّ المعلّم وقال لي: أكيد يوجد لديكم أشياء أكثر من هذه في "قصر فرساي"؟ فاندهشت ورددت عليه قائلا: - لا يوجد لدينا في إسطنبول قصر اسمه "قصر فرساي". لقد ظنّ الرّجل أنّني فرنسيّ، ثم أضفت قائلا: لا، أنا لست فرنسيّا، أنا تركي، جئت من إسطنبول.

وعلى إثر هذه الكلمات جحظت عينا الرّجل وحملق في وجهي وقال لي: - أليست بشرة الأتراك سوداء ؟ فقلت له : - لا، الأتراك ليسوا سودًا، إنّ بشرة الأتراك بيضاء، وهناك من هم ألوانهم سوداء يعيشون بينهم، لكن أصولهم ليست تركية.

ويورد المحاضر أن الصورة المنتشرة في دول أوروبا عن الشرق بشكل عام وعن تركيا بصورة خاصة هي أنها دولة متخلفة جدا، وأن شعبها شعب همجي ومتخلف وشرس. وأن الحضارة لم تصلهم بعد، ويقول إن بعض العروض المسرحية التي كان يروج لها في لوحات كبيرة في الشوارع كانت تنقل صورة خيالية ومهينة وسوداوية عن الأتراك وبلادهم. و كثيرا ما كانت الأمثال المتداولة عن عدم الفهم والتخلف تربط بالأتراك، ويذكر أنه في إحدى جولاته في حديقة وسط بروكسل في بلجيكا سمع أحدهم يقول بالفرنسية "On va en en arrière comme En Turquie" وهي جملة تعني "نحن نسير إلى الخلف تماما كما في تركيا".

ثم ذكر المحاضر أن على المثقفين الأتراك أن يبذلوا جهودا كبيرة في تغيير هذه الصورة المشوهة من خلال الكتابة والتأليف، وإرسال بعثات إلى أوروبا والاختلاط بالناس هناك لشرح حقيقة الحياة في هذه البلاد الإسلامية، كما اقترح استضافة مفكرين من أوروبا لكي يطلعوا بأنفسهم على حقيقة الواقع كما هو لا كما تنقله الصحف وينقله المغرضون والجاهلون.

واليوم وبعد نحو 100 عام من هذه المحاضرة هل تغير شيء لدى الأوروبيين عن تركيا والشعب التركي؟

المؤكد أن العالم اليوم يختلف جذريا عن العالم قبل 100 عام، وقد مثلت ثورة الاتصالات عاملا مهما في إيصال المعلومات إلى أي فرد في أي مكان عن العالم، فيمكن للأوروبي أن يجلس في بيته ويتجول في شتى أنحاء العالم، ويزور جميع بلاد المشرق والمغرب ويتعرف بنفسه بالصوت والصورة على تلك البلاد وبكل التفاصيل المتعلقة بالأرض والسكان والحضارة الثقافة وكل شيء.

لكن بالرّغم من كل ذلك يبدو أنّ التّاريخ مازال يفعل فعلته في نفوس الأوربيين وعقولهم. فكثير من ساسة أوروبا ومثقفيها مازالوا يعيشون في الماضي البعيد، مازال التاريخ المليء بالهزائم التي لحقت بأوروبا على أيدي الأتراك تثير في نفوسهم مشاعر عدائية لم يتطهّروا منها بعد. مازالت نفوسهم مليئة برغبة جامحة في الانتقام، ولعل مسألة اتهام العثمانيين بارتكاب مجازر في حق الأرمن خير دليل على ما نذهب إليه هنا.

إن إصرار كثير من الدول الأوروبية على إلصاق هذه التهمة بالعثمانيين ورفض الدعوات المتكررة التي أطلقتها الحكومة التركية بفتح ملفات الأرشيف في هذا الموضوع وإسناد مهمة البحث في هذه القضايا إلى المؤرخين والقبول بالنتائج التي يتوصلون إليها، كل ذلك دليل على أن ما يحركهم ليس الرغبة في الوصول إلى معرفة الحقائق التاريخية إنما الرغبة في الانتقام والثأر، والذي يهمهم هو محاصرة تركيا والسّعي إلى إجهاض النّهضة الشاملة التي تعيشها في الوقت الحاضر في شتى المجالات. الغرب لن يكون مطمئنا ومرتاحا وهو يرى تركيا تسير يوما بعد يوم بخطى ثابتة باتّجاه تعزيز استقلاليتها السّياسية والاقتصادية والعلمية بما في ذلك دخولها مجال التصنيع العسكريّ.

نظرة الغرب إلى الشّرق بشكل عام قائمة على الاحتقار والرّغبة في جعل دول هذه المنطقة متخلفة وتابعة ومفككّة وغير قادرة على الاعتماد على نفسها في صنع مستقبلها. وكلّ أمل يظهر في أية دولة يتم إجهاضه بسرعة من خلال تلفيق الاتّهامات والأكاذيب، وقد رأينا كيف تمّ تدمير العراق بتهم واهية تبين بعد ذلك زيفها، ورأينا كيف تخلى الغرب كله عن شعارات الديمقراطية والحرية عندما تعلق الأمر بالبلدان العربية، فحيكت المؤامرات لتخريب آمل الشعوب العربية في الحصول على الحرية في مصر وفي سوريا وفي اليمن وأدخلت هذه البلدان في دوامة من الصراعات والعنف من أجل تخريبها من الداخل وبأيدي أبنائها. كما أنّ تركيا لم تسلم من هذه المؤامرات، ولا تفتأ المحاولات مستمرة من أجل تحقيق الهدف المتمثل في كبح جماح هذا النموذج الناجح وإعادة هذه الدولة بشعبها إلى دائرة التخلف والطاعة والتبعيّة. ولعل مزاعم إبادة الأرمن هي الفرصة الذهبية التي لا يريدون إضاعتها لتحقيق نواياهم، فالتقدّم والاستقلال الحقيقي غير مسموح بهما إذا تعلّق الأمر ببلد مسلم.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس