مصطفى القاسم – خاص ترك برس

لم يشهد العالم المعاصر منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها مأساة بحجم مأساة الإنسان السوري، فتحت أنظار العالم، وأمام كاميراته، وعلى مرمى نظره، وفي دائرة سمعه، وفي مدى لمسه، وضمن دائرة اجتماع حواسه، تجري جريمة العصر، والعالم منقسم بين مساهم في الجريمة مساهمة فعلية، وآخر يلعب دور ممثل رديء التمثيل يزعم أنه لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم.

العدد المعلن للقتلى تجاوز الثلاثمائة ألف قتيل بين رجل وامرأة وطفل، والعدد الحقيقي الذي ستكشفه الأيام يقارب المليون حتى كتابة هذه الكلمات! وعدد المصابين مابين إعاقة دائمة أو جزئيّة أو إصابة قابلة للشفاء يزيد عن عدد القتلى بكثير! أما عدد المخطوفين والمختفين قسرياً والمعتقلين والذين تعرضوا للتصفية الجسدية فليس ثمة آلية للوقوف عليه ولكنه لا يقل عن مئات الألوف!

أما المهجّرين من مدنهم وقراهم، والذين هدّمت بيوتهم ومسحت تجمعات سكنهم وأزيلت من الوجود قيودهم، وتوزعوا بين نازح داخلي ولاجئ خارجي فقد جاوز هؤلاء الملايين العشرة، بل تجاوزت نسبتهم نصف عدد مواطني سوريا في الحدود الدنيا، وقد انتشر هؤلاء مابين التجمعات السكنية للدول المجاورة وخيام المخيمات المجهزة على عجل وظلال الأشجار والكهوف والمغاور والأرض العراء... أجل، فرغم مرور سنوات على بدء الكارثة، وتصاعدها الدراماتيكي، وتناوب الفصول، بكل ما تحويه من قسوة الإقليم، مابين حرّ وقرّ، رغم كل ذلك كان هناك أطفال وشيوخ ونساء ورجال في العراء أو في مآوي تشبه العراء!

ولأسباب أصبح سرّها معلناً شاركت الكثير من دول المنطقة والعالم في المذبحة دون رادع وجداني، وأحيانا مع بعض الهتاف والتشجيع الجهري أو الخفي، وتم تحويل سوريا الى ساحة للصراعات الدولية وتصفية الحسابات وكسر العظام، ولكن الدماء التي سالت والأرواح التي أزهقت والآلام كانت كلها على حساب الشعب السوري، وكل ما اقترفه هذا الشعب من ذنب، أنه رضخ للذئب، الذي قدّم هذا الشعب، في السلم والحرب، مطيّة وضحيّة لأعداء الأمة التي تولّى الحكم فيها!

لم يختلف وضع النازح في الداخل السوري عن اللاجئ في الأردن ولبنان والعراق... فظروف النزوح واللجوء كانت واحدة، فكان البرد واحدا، والحر واحدا، والخوف والعري والجوع والعطش والابتزاز والاستغلال كان واحدا! وكذلك التهديد بالاعتقال والسجن والطرد كان متقاربا!

وعندما ركب السوريون قوارب الهجرة الى البلاد البعيدة، لم تتحمل القوارب أعدادهم وآلامهم، فأبحرت بهم الى قاع البحر الأبيض المتوسط لتكمل حيوانات البحر افتراس من نجا من حيوانات البر!

لم يرتكب السوري ذنباً، فالسوري عامل وفلاح وحرفي وبنّاء وأكاديمي ومهني ودارس ومدرس ومستشار وخبير يؤمن أن الحياة عمل وإبداع وعطاء، ويتميز بالصدق والوفاء، وكل ما فعله أنه رفض استمرارية نهج الظلم الذي نهجه النظام الحاكم، رفض تقسيم الشعب الى طبقات يعلو فيها بعض البشر بعضهم الآخر بناء على تقسيم طائفي، ويتغوّل البعض على الباقين لإمساكه بالثروات الوطنية والقرار الاقتصادي ، وتكمّ الأفواه لإتاحة الفرصة للأيديولوجيات المستوردة لتنتشر وتستشري وتفسد على أهل البلاد عقيدتهم. لم يتطاول السوريون على دولة أخرى أو شعب آخر أو أنظمة أو قوانين دولية، ولم يهددوا مصالح غيرهم، ولم يحاولوا تصدير فكرهم أو حراكهم، كل ما كانوا يطلبونه حريتهم من نظام كان يعمل على استعبادهم، كل ما سعى السوريون إليه كان ليكون محصورا ضمن حدود بلادهم وضمن المبادئ الانسانية السمحاء، ولم تكن التطورات المستجدة على المشهد السوري لتكون لولا أن سعى النظام الغاشم ومؤيدوه لجعل الأمور على الشاكلة التي صارت إليها.

في هذه الظلمة المدلهمّة، والقصف المصمّ، والحرّ الحارق، والبرد القارس، والانهاك والرعب، وعندما غلّقت دون الشعب السوري كل الأبواب، كان هناك باب واحد مفتوح لم يغلق، وكانت هناك يد ممدودة من خلال هذا الباب تنتشل من سقط أو عثر ، وتقدّم الملجأ والدواء والغذاء، وتمسح دموع الأطفال والدماء... لقد كان ذلك الباب هو باب الجمهورية التركية.

لقد كانت الرسالة التركية واضحة جدا، وساطعة كأشعة الشمس، ومفادها لا زال في البشر من يحمل رسالة الانسانية ويؤمن بالأخوة الحقيقية ويقول كلمة الحق في وجه الجزّار ويدفع السكين عن الضحية.

كانت هذه الرسالة محرجة وصادمة للقتلة، ولكنها صدّاحة بالحق الذي نطقت به ومجلجلة، وقد تفاءل بها السوريون كثيرا وشعروا من خلالها بأنه مهما علا صوت الباطل وسوطه، فسوف تشرق شمس الحق ويعلو صوت الانسانية، وسوف يعودون الى بلادهم وقد تخلصوا من جلّادهم، وعقدوا العزم على ردّ الجميل لمن وقف بجانبهم.

لقد أثبتت الأمة التركية أنها أمة الرجال، وأمل المظلومين، بل هي أمل الانسانية الحقيقية وحاملة راية الاسلام كرسالة سلام عالمية، ومهما حاول البعض اقتناص الفرص والانقضاض على هذه البلاد، أو تفريق شمل هذه الأمة والنأي بها عن الرسالة التي تحملها، لمنعها من ارتقاء مراقي الفلاح، والحيلولة دون عودتها الى سدّة القيادة، ولإلزامها بدفن رأسها في الرمال، فإن هذه الأمة ستتابع بإذن الله مسيرتها على دروب خطّها الحق لرجال آمنوا أنهم حملة رسالة إنسانية عالمية ومهمتهم إعمار الأرض.

عن الكاتب

مصطفى القاسم

محامي وكاتب سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس