محمود عثمان – خاص ترك برس

مع التحول من حكم الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية في الخمسينيات من القرن الماضي، اختارت النخبة السياسية التركية نظام الحكم البرلماني على أساس أنه يؤمن مشاركة أوسع للمواطن والأحزاب والنخب والهيئات في الحياة السياسية .

صحيح أن هذا النظام حقق مشاركة قطاعات واسعة من أطياف المجتمع التركي، لكنه بنفس الوقت تسبب في خلق حالة من الشرذمة والانقسام والتشظي أصابت الحياة السياسية بالشلل، وجعلتها عرضة لتدخل شتى القوى الداخلية والخارجية , والعبث بالأحزاب السياسية من قبل ما اصطلح على تسميته بالدولة العميقة، مما فتح الباب واسعا أمام شراء ذمم نواب البرلمان بالترغيب والترهيب في قضايا كثيرة اشتهرت في السبعينات فشغلت حيزا واسعا، حتى صار لها مصطلح دخل قاموس السياسة، مثل كوناش موتيل Güneş Motel باسم المكان الذي شهد كثيرا من تلك الصفقات المشبوهة. هذه الحوادث وأمثالها كانت تثير شاهية العسكر وتشكل لهم ذريعة تشجعهم، وتمهد لهم طريق الانقلاب على السلطة السياسية، حتى صارت الانقلابات العسكرية ظاهرة تتكرر كل عشرة أعوام .

عقب انقلاب عام 1980 شكل الانقلابيون بزعامة الجنرال كنعان أفرين "مجلس شورى Danışma kurulu" الذي أشرف على إدارة العملية السياسية، ووضع دستورا جديدا للبلاد لا يزال رغم إجماع كل الأحزاب السياسية على ضرورة تغييره، ورغم ما تعرض له من تعديلات جذرية كثيرة قائما ساري المفعول!. ومن الجدير بالذكر أن هذا الدستور تم إقراره في استفتاء شعبي حاز من خلاله على نسبة قبول فاقت التسعين بالمائة !.

ولعل من أهم ما جاء به دستور الثمانين من تغييرات كان قانون الانتخاب الذي أعطى الأولوية للاستقرار السياسي، فقام بوضع حاجز العشرة بالمائة من مجموع أصوات تركيا كحد أدنى شرطا لدخول الأحزاب السياسية مجلس الأمة التركي، مستثنيا من ذلك المرشحين المستقلين . بحيث لو نجح المرشحون في مناطقهم وحصلوا على أعلى الأصوات فسيبقى وصولهم للبرلمان مرهونا بحصول حزبهم على نسبة 10% من مجموع أصوات تركيا، فإن حقق الحزب هذا الشرط دخل مرشحوه الناجحون البرلمان وإلا فإن مقاعدهم ستنتقل إلى الذين يلونهم ممن نجحت أحزابهم في تجاوز حاجز العشرة بالمائة .

كان أول ثمار قانون الانتخاب الجديد وصول المرحوم تورغوت أوزال إلى السلطة عقب نجاح مفاجئ كاسح حققه حزبه "الوطن الأم" على عكس ما توقع العسكر واشتهته سفنهم، الذين خدعتهم نسبة الاستفتاء على الدستور الجديد فحسبوها لهم !.

في المقابل لم تتوقف الانتقادات الموجهة لهذا القانون إلى يومنا، بل ازدادت في الآونة الأخيرة مصحوبة بضغوط داخلية من قبل أحزاب المعارضة وخارجية من طرف الاتحاد الأوربي باتجاه خفض نسبته، بذريعة إفساح المحال لجميع الشرائح والمكونات من دخول البرلمان . فيأتي الرد من طرف حزب العدالة والتنمية الحاكم بأن ذلك من شأنه أن يرجع بالبلاد الى عهود عدم الاستقرار مثل السبعينات، وأن هذا الشرط ضروري من أجل تثبيت دعائم الديمقراطية وتحقيق الاستقرار السياسي، مما سيؤدي بالضرورة إلى سحب يد العسكر من التدخل في الحياة السياسية .

بالطبع لا أحد ينكر حقيقة أن حاجز العشرة بالمائة ليس بالعادل، فعلى سبيل المثال حصل حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2002 على 34.28 أي ثلث أصوات الناخبين لكن عدد مقاعده في البرلمان جاوز الثلثين . لكن بنفس الوقت يقر الجميع بأنه حقق قدرا كبيرا من الاستقرار وضيق من احتمالات قيام الحكومات الائتلافية التي جلبت المصائب والويلات، والتي تحولت إلى كابوس يؤرق مضجع المواطن التركي.

وفي المحصلة عموما فقد أثبتت تجربة النظام البرلماني والانتخابات في تركيا قيام حالتين، إما فوز حزب واحد قوي بأغلبية ساحقة، وهذا يعني حكومة قوية قادرة على تحقيق الانجازات، كما حصل مع حزب العدالة والتنمية، وإما أنْ يكون المجلس مكونا من عدة أحزاب ضعيفة، فينتج حكومة ائتلاف شبيهة ب "شركاء متشاكسون" وحينها يُصبح من الصعب جدا إدارة الدولة والاقتصاد وشؤون البلد ،بله التقدم والتطوير واللحاق بركب الحضارة, وحينها لا يمكن ضمان حقوق الناس والحريات، وهذا ما حصل على مدار السنوات التي سبقت قدوم حزب العدالة والتنمية.

وبينما تعمل أحزاب المعارضة على خفض نسبة العشرة بالمائة، يطرح حزب العدالة والتنمية مشروعا شاملا يهدف إلى تغيير الدستور الذي جاء به العسكر، وتحويل نظام الحكم من حكم برلماني إلى حكم رئاسي يضمن الأمن والاستقرار.

أي الفريقين سينجح ؟.. هذا ما سيقرره ويختاره ويصوت عليه المواطن التركي بعد أسبوعين في السابع من شهر حزيران المقبل .

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس