البروفسور زكريا قورشون - الأناضول/ ترجمة وتحرير ترك برس

أصدر العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، مؤخراً، أمرا ملكيا باعتبار 1727 عام تأسيس الدولة السعودية، وذلك في إشارة إلى العام الذي قدِم فيه محمد بن سعود، الجد الأكبر للملك سلمان، إلى منطقة الدرعية الواقعة وسط البلاد. الخطوات الرمزية والفعلية التي تشهدها السعودية خلال السنوات الأخيرة، تستوجب مناقشة هذا المرسوم أيضاً، والتساؤل عن دوافع الرياض للقيام بخطوة كهذه، وما الهدف منها؟ هل هي خطوة رمزية أم حقيقة تاريخية؟

تبنّي الدولة اتخاذ هذا القرار الذي كان يستوجب على المؤرخين اتخاذه، يهدف لتحقيق أكثر من غاية في ضربة واحدة. الأولى؛ تأسيس خطاب تاريخي للدولة القومية العصرية/ العلمانية وإنقاذها من هيمنة عام 1744 المذكور في الخطاب الثيوقراطي للعلماء الوهابيين. الغاية الثانية؛ رفض فكرة تاريخ التأسيس الرسمي للدولة في عام 1932 والمقترن بالإنكليز، في خطوة للابتعاد عن التهم الموجهة للسعودية بأنها "دولة مصطنعة" أو "دولة بترول". أما الغاية الثالثة فتتمثّل في الابتعاد عن المفهوم التاريخي المنقسم والذي تم اعتماده سابقاً، واعتماد بدل من ذلك تاريخ تأسيس شامل للدولة القومية.

** السعودية ومفهوم التاريخ الوهابي

كانت الأسرة السعودية تكتفي في البداية بالتاريخ الشفوي الذي كان سائداً بقوة في شبه الجزيرة العربية. ولم يكن العلماء الوهابيون الذين كانت الإدارة السعودية تستمد مشروعيتها منهم، يسمحون أصلاً بالذهاب إلى أبعد من ذلك فيما يخص تاريخ تأسيس الدولة. حيث أن هؤلاء كادوا يعتبرون محمد بن عبد الوهاب بداية للتاريخ كلّه، وفيما سبق ذلك كلّه عصور ظلام، بل وإن الاهتمام بالتاريخ كان نوعاً من الشرك بالنسبة لهم. كما كان العلماء الوهابيون يعتبرون أن تاريخ الدولة السعودية، يعود إلى عام 1744، وهو السنة التي تحالف فيها محمد بن عبد الوهاب مع محمد بن سعود، تكرّماً منه تجاه الأخير. لذا لم تشعر السعودية في سنوات تأسيسها، بالحاجة لكتابة تاريخها. بحلول عام 1935، بدأ الأمريكان الذين حصلوا على امتيازات للتنقيب عن النفط في المنطقة، بتأسيس قسم للأبحاث التاريخية ضمن شركة "أرامكو" السعودية للنفط والغاز الطبيعي، لتسليط الضوء على تاريخ المنطقة. إلا أن هذا القسم وانطلاقاً من أهداف براغماتية، كان يركّز فقط على تاريخ المناطق التي تم الحصول على امتيازات للتنقيب فيها. ولذلك تم تأسيس قسم هام للأرشيف، إلا أنه لم يساهم في كتابة تاريخ المنطقة. إلا أنه واعتباراً من خمسينيات القرن الماضي، أدركت السعودية التي بدأت تعزز من مستوى رخائها بسبب عائدات النفط، أهمية كتابة التاريخ، وبدأت بإدراج ذلك في مناهجها التعليمية.

** الصراع الأمريكي البريطاني الدافع لكتابة التاريخ

عقب مرحلة إعادة ترتيب الأوراق الإقليمية والتي تلت الحرب العالمية الثانية، ظهرت رغبة لدى الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن (بن سعود) للتوسّع باتجاه المنطقة المعروفة حالياً بإمارة أبو ظبي، الأمر الذي أثار الحديث حول التاريخ وأهمية كتابته. بالرغم من إرسال الملك عبد العزيز، وحدة عسكرية إلى الحدود الجنوبية ليخلق بذلك حقيقة واقعية هناك عام 1949، إلا أنه كانت هناك حاجة لتقديم توضيح للرأي العام، يستند على الأسس التاريخية.

أما حاجة السعودية بشكل حقيقي، إلى التاريخ المكتوب، تجسّدت خلال أزمتها الحدودية مع عمان والتي عُرفت بـ "حرب البريمي". في الحقيقة هذه الأزمة لم تكن تقتصر على السعودية فحسب، بل كانت أزمة العالم أجمع حينذاك. حيث أن الولايات المتحدة التي تمركزت في المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كانت تواصل سيطرتها على مناطق النفوذ البريطاني، واحدة تلو الأخرى. وعند محاولة رسم الخط الحدودي بين السعودية وعمان التي كانت تضم حينها إمارة أبو ظبي الواقعة في الإمارات حالياً، تعقّدت الأمور وباتت الولايات المتحدة وبريطانيا في مواجهة بينهما. كلتا الدولتين كانتا لا ترغبان في التفريط بمناطق الهيمنة التابعة لهما. لذا بدأت محاولات الدبلوماسية القاسية ومساعي الحل. من جهة كانت الولايات المتحدة تسعى قدر الإمكان لتوسيع حدود امتيازاتها النفطية التي نالتها في الشرق. لذا كانت تدافع عن السعودية في الجنوب (منطقة البريمي) التي كان يعتقد كميات كبيرة من النفط غير المكتشف فيها. أما بريطانيا، كانت تقف إلى جانب عمان لحماية خط الرياض الذي حُسم الأمر فيها سابقاً خلال مرحلة الحصول على الامتيازات.

اشتباك القوى المهيمنة، نقلت هذه الأزمة إلى الصعيد الدولي. وعند انتقال الأمر إلى الأمم المتحدة، تولدت حاجة إلى التاريخ، أو بالأحرى إلى حاجة السعودية لشرحٍ حول مناطق سيادتها على مرّ التاريخ. إلا أنه لم تكن هناك أدلة كافية ووثائق متوفرة من أجل ذلك. بالرغم من ذلك، قام بعض الخبراء وفي ظل تنسيق أمريكي، بإعداد "كتاب تذكاري" مكوّن من 3 مجلدات، لعرضها على اللجنة المعنية لدى الأمم المتحدة. وكان الكتاب التذكاري يضم معلومات ووثائق تم تأمينها من الروايات الشفهية ومصادر أجنبية مختلفة. وبناء على هذه المعلومات، كان يُزعم أن السيادة التاريخية للأسرة السعودية، تمتد من حدود الدرعية إلى عمان.

** جدل السيادة والدول السعودية الثلاثاء

كانت هناك ضرورة إلى ذكر مصطلح "السيادة" مقترناً مع الدولة. إلا أن مصادر السعوديين والأحداث التي تشهدها المنطقة منذ القرن الـ 18، على حد سواء، كانت بعيدة عن تعريف السيادة بمعناها الحقيقية. حيث كانت هناك العديد من القوى المحلية التي توصف بـ الإمارات، ولم تكن أيّ منها تذكر كدولة. ناهيك عن السيادة العثمانية في المنطقة، والتي كانت تحظى بقبول دولي آنذاك. لذا تمت إعادة النظر في التاريخ وتأسيس نظام ثلاثي. وفقاً لهذا، هناك مزاعم بتأسيس ثلاث دول سعودية على مر التاريخ. الأولى، هي الدولة التي تأسست بين عامي 1744-1891 في الدرعية والتي قضى عليها إبراهيم باشا بن محمد علي باشا، والي العثمانيين على مصر. والثانية، هي التي تأسست بين عامي 1824-1891 واتخذت من الرياض مركزاً لها، إلى أن انتهت على يد آل الرشيد. أما الدولة الثالثة، فقد أثير خلاف حول تاريخ تأسيسها بين من يعتمد عودة بن سعود إلى الرياض عام 1902، تاريخاً للتأسيس، وبين آخرين يعتمدون في ذلك اعتراف بريطانيا رسمياً بالسعودية عام 1932. حيث لم تكن هناك إجابات حتى ذلك الحين لتساؤل مفاده "هل كانت هناك حدود سيادية بالمعنى المعاصر للإمارة؟".

في بدايات عام 1914، عُيّن بن سعود والياً عثمانياً على منطقة نجد برتبة باشا. واكتسب هذا التعيين صفة دولية عبر ذكره في اتفاقية عام 1914 بين العثمانيين والإنكليز، والتي رسمت حدود اليمن. الجمهورية التركية كانت على تواصل مع الأسرة السعودية منذ عام 1925، إلا أنها كانت تسميها بـ "حكومة نجد والحجاز وملحقاتها" حتى في اتفاقية الصداقة التي أبرمت بين الجانبين عام 1929. أي أنها لم تكن تنظر إليها على أنها دولة مرسومة الحدود وذات اعتراف دولي. ونظراً لتسبب هذا الأمر في تناقض بين المؤرخين حول "الإمارة" و"الدولة"، تم اعتماد 1932 كعام تأسيس الدولة. وتقوم السعودية حالياً وبصفتها دولة ذات سيادة، ببناء علاقاتها واتفاقياتها الدولية على هذا التاريخ.

أما المرسوم الملكي الأخير، كان نتيجة نيّة موجودة منذ فترة طويلة. ولفهم ذلك، علينا العودة قليلاً إلى الماضي.

** الملك سلمان يأمر بإعادة كتابة التاريخ

عندما كان العاهل السعودي الحالي، الملك سلمان، ولياً للعهد ووزيراً للدفاع، أطلق في نهاية تسعينيات القرن الماضي، مشروعاً مكثفاً. إلا أن هذا المشروع لم يكن متعلقاً بشؤون الدفاع. وفي الأساس، منطقة الخليج كانت أكثر استقرارًا في ذلك الحين، ولم تكن تشهد إنفاقاً على الدفاع بقدر ما نشاهده اليوم. حينها، كان سلمان يهتم اهتماماً كبيراً بالتاريخ، وبالأخص، تاريخ الأسرة السعودية.

وبدأ ولي العهد سلمان، مشروعه بتأسيس "دارة الملك عبد العزيز للأبحاث". وعيّن على رئاسة الدارة، فهد السماري الذي يعد داهية في مجال الأرشيف، وأمره بإجراء مسح على كافة الأرشيفات حول العالم بما فيها تركيا.

واستفادت الدارة بالدرجة الأولى من الأرشيف العثماني. حيث قاموا بنقل كافة الوثائق التي عثروا عليها حول الأسرة السعودية والمنطقة، إلى الدارة، في خطوة لتأسيس أرشيف وطني ضخم لدولة قومية لم تتأسس بعد. كما تم جمع كافة الوثائق، والمخطوطات والكتب التي بحوزة المواطنين داخل البلاد. كما أسست كوادر على مستوى المحافظات، لعقد اجتماعات وندوات في كل مكان تقريباً، حول تاريخ البلاد والأسرة الحاكمة. في الحقيقة، جميع هذه الخطوات أطلقت بدافع الذكرى المئوية الأولى للسيطرة على الرياض من قبل بن سعود الذي أجبره آل الرشيد على الإقامة في الكويت بإذن الدولة العثمانية، بعد إجباره على الخروج من الرياض.

وفي إطار المشروع ذاته لولي العهد سلمان، تم ترميم قصور الأسرة الحاكمة في منطقة الدرعية التي كانت مقراً سابقاً للإمارة السعودية. ولم يثنِ سلمان عن قراره هذا مقاومة علماء الوهابية لهذه الخطوة. كما تم تأليف الكتب والأطالس. حتى أنه تم رسم شجرة جديدة للعائلة السعودية، عبر ربطها ببني حنيفة وإقصاء ذراعها المنتمي لقبيلة عنزة. جميع هذه الخطوات التي كانت لا بد منها لتأسيس دولة قومية حديثة، تزامنت مع تأسيس الملك سلمان لأسرة من نسبه (آل سلمان) وفق أطروحاته التاريخية الجديدة.

لكن كيف ستكون ردة فعل المفهوم السائد حتى اليوم، والعلماء، والأهم من ذلك كلّه ماذا ستقول المصادر التاريخية أمام مرسوم تغيير تأسيس تاريخ السعودية؟ هذا ما سنراه مع مرور الزمن.

***

[الأستاذ الدكتور زكريا قورشون، رئيس قسم التاريخ في جامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية. كما يترأس جمعية دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا (أورداف)]

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس