توران قشلاقجي - القدس العربي

بعد الحرب العالمية الأولى، تعرضت إسطنبول للاحتلال من قبل قوات الحلفاء؛ بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، بتاريخ 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1918. وانتهى الاحتلال رسميا في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1923. وشكلت تلك الفترة واحدة من أصعب الفترات في تاريخ إسطنبول. فقد كانت المدينة من جهة تعاني مجاعة كبيرة بسبب الحرب العالمية الأولى، ومن جهة أخرى كانت قوات الاحتلال تعتقل وتعذب عشرات الأشخاص كل يوم، كما شهدت هذه الفترة نزع سلاح عناصر الجيش والشرطة العثمانية في إسطنبول.

وخلال الفترة ذاتها، وقع حدث لافت يمكن أن يكون موضوعا للأفلام؛ فعندما أوقف جنود فرنسيون مخمورون سيارة في منطقة السلطان أحمد وحاولوا اغتصاب سيدتين تركيتين كانتا في داخلها في وضح النهار، تصدى لهم شرطي عثماني شاب يدعى جميل أفندي، وهو من أصول ألبانية وكان يبلغ من العمر 19 عاما. وقتل جميل أفندي اثنين من أصل 5 جنود فرنسيين، بمساعدة عدد من المواطنين في المنطقة، وأصاب الآخرين، لكنه لم يتمكن من الهرب وتعرض للاعتقال ومثل أمام محكمة تابعة لقوات الاحتلال.

استمرت جلسات محاكمة جميل أفندي في محكمة الاحتلال عدة أيام، ثم تقرر اعتقاله وأرسل إلى سجن في جزيرة غويانا الفرنسية، التي تشتهر باسم «جحيم الأرض» أو «جزيرة الشيطان». يرى جميل أفندي 7 شباب أتراك آخرين في السجن نفسه، ويتعرض هناك لأشد أنواع التعذيب، ويحاول البقاء على قيد الحياة عبر أكل الحشرات، نظرا لقلة وسوء الطعام المقدم للسجناء، يحاول الفرار مرتين لكنه يفشل، وفي المرة الثالثة، تساعده زوجة أحد الحراس الفرنسيين في السجن، وكانت هذه المرأة تتعرض للتعذيب أيضا على يد زوجها. ينجح جميل أفندي في الفرار إلى غويانا البريطانية، باستخدام قارب صغير، لكنه يقع هناك أسيرا ويجبر على العمل في المناجم ويمر بأيام صعبة جدا، وبعد بضع سنوات، يجد طريقة للفرار إلى إيطاليا على متن سفينة، ثم يلجأ إلى السفارة التركية هناك.

أمضى جميل أفندي 10 سنوات في كلتا الجزيرتين، وبعد إبلاغ السفارة السلطات المعنية في تركيا بالأمر، يتصدر اسم جميل أفندي عناوين الصحف في إسطنبول، وبعد فترة، تشرف السفارة التركية لدى إيطاليا على إرساله إلى إسطنبول عبر سفينة. ويعود إلى وطنه عام 1929، فيستقبله في الميناء حشد كبير من الناس استقبال الأبطال. عندما عاد إلى البلاد، كانت الدولة العثمانية قد انهارت وتأسست مكانها جمهورية تركيا. رئيس الجمهورية المؤسس مصطفى كمال أتاتورك، يقرر تعيين جميل أفندي مجددا في جهاز الشرطة، لم يستطع جميل أفندي أن يتكيف مع الحياة الجديدة، وفارق الحياة عام 1943.

أمّا «الفراشة»، فهو اسم كتاب ألّفه الكاتب الفرنسي هنري شاريير عام 1969 ليسرد فيه محاولات الهروب التي يدعي أنه عاشها شخصيا في السجن في جزيرة غويانا. وعندما حظي الكتاب باهتمام واسع، تم تصوير فيلم من محتواه عام 1973 وكان بطلاه الممثلين ستيف ماكوين وداستن هوفمان. ولاحقا، يدعي شاريير أنه لم يعش الأحداث بنفسه، وإنما استمد الأفكار من محاولات فرار حدثت سابقا في السجن.

خلاصة الكلام؛ يهدف المؤرخ الشهير أحمد أوجار إلى نشر جميع مذكرات الشرطي البطل جميل أفندي، بعد أن تمكن من العثور عليها، لكنه يعمل مع المنتج حسن مرت قايا، على تحويل هذه القصة إلى مسلسل أولا، ويبحثون حاليا عن جهات ترعى المشروع، ويهدف المسلسل إلى تسليط الضوء على الدماء التي سالت، والأرواح التي تمت التضحية بها في سبيل نيل الاستقلال والحرية، فضلا عن إطلاع العالم على الأيام المظلمة التي مرت أثناء احتلال إسطنبول. نشاهد في ما سبق، كيف يتعرض شخص بريء للتعذيب والترهيب لمجرد قيامه بواجبه. وبينما كانت حياة جميل أفندي تتغير على بعد آلاف الكيلومترات، ولغته وثقافته، كانت بلاده أيضا تعيش تحولا كبيرا، وتكشف مشاكل التأقلم التي واجهها جميل أفندي بعد عودته إلى وطنه، مدى تحول الدولة من بين الفترتين العثمانية والجمهورية، أتمنى أن تجد الشركة المنتجة جهة راعية لهذا المسلسل في وقت قريب.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس