د.مصطفى حامداوغلو - خاص ترك برس

بعد أن ساد الجمود الملف السوري عدة سنوات بسبب وصول جولات الاستانة وسوتشي لطريق مسدود، ولم تُفض بأي نايجةكما توقعه منذ البداية كثير من المراقبين والمتابعين ، جاءت التصريحات التركية بعقد لقاءات رسمية مع النظام بدمشق لتلقي بحجر كبير يحرك الماء الراكد وتذيب الجليد والصقيع من جديد.

هذه التطورات الجديدة أثارت الخوف والقلق لدى شريحة كبيرة من السوريين التي تجهل ما قد تؤول له هذه اللقاءات ، التي اعُتبرت من قبل البعض بأنها خطوات التطبيع من جديد مع نظام دمشق الذي هجر نصف شعبه وقتل أكثر من مليون منه مستخدما كل الاسلحة المحرمة دوليا.

حركت هذه اللقاءات ايضا العصف الذهني لدى الكثيرين من المهتمين والمتابعين للشأن السوري، الباحثين عن حل منطقي وواقعي ، ضمن انسداد الافق ، وتعنت الدول الفاعلة المتصارعة على الأرض السورية ،واهمال وغياب الدول العربية عن جراحات السوريين وعدم مبالات من كانوا يسمون بأصدقاء الشعب السوري في يوم من الأيام.

فأطلق بعض الكتاب مقالات فكرية قيمة تبحث عن حل وبصيص أمل في هذا النفق المظلم، وكانت فكرة استعادة حلب اداريا للمناطق التي تديرها تركيا من أجل طمأنة السوريين وخاصة اللاجئين المتواجدين بتركيا والمخيمات ، للعودة الى مناطق حلب واعادة الاعمار والازدهار وجعلها منطقة آمنة تستوهي كل المعثرين السوريين الذين لم يجدوا  ملجئاً آمناً ولا عشاً دافئاً حتى الآن .

مما لا شك فيه أن هذه الفكرة القيمة التي اطلقها وكتب عنها كتاب كبار ، دغدغت مشاعر كثير من السوريين وأعادت لهم ضوء ولوكان خافتا في نفقهم المظلم واعادت لهم حتى مجرد بصيص أمل افتقدوه في ايامهم الاخيرة.

لكنها اثارت الخوف لدى البعض الآخر لغموض مآلها ، وهل هي خطوة ومرحلة انتقالية ضمن السناريوهات القادمة التي ستعيد بسط سيطرة النظام عليها من جديد ضمن تفاهمات دولية أو اقليمية.

فهل يكون هذا الطرح الهام بمثابة أملاً جديداً للسوريين، يمكن تحقيقه وخطوة نحو الحل الأشمل ، أم يظل مجرد فكرة حالمة وعصف ذهني متفائل  رغم هذا الواقع المظلم!؟

قبل أربعة أشهر من هذا التاريخ كتبت محللا للواقع السوري وباحثاً عن مخرجاً لهذا الانسداد العقيم ،والتشخيص للواقع الذي تعيشه سوريا اليوم لا يخفى على أحد ، هو التمزق والتشرذم، وسيطرة وهيمة ، و قوى متعددة  متناحرة ، مدعومة ومحمية اقليمياً ودولياً. وهذا الواقع لا يخفى على أحد  ـ

1-النظام بدمشق وحاله المزري، هل هو موجود فعلياً أم غائباً  أم مغيباً ، هل يملك شيئاً من السيطرة على مناطق حكمه،وهل يحكمها بالفعل !؟

 تردي الحالة الاقتصادية والمعيشية التي لم يعد يصبر عليها المؤيدين قبل المعارضين .

2- روسيا وايران ايهما الحاكم والمتحكم الفعلي بسوريا، هل هناك اتفاق وتبادل أدوار بينهما، أم تقاطع مصالح ، أم مناورات ولي أذرع وتأجيل الخلافات بسبب وجود العدو المشترك ؟

3- قسد المدعومة من أمريكا والغرب بشكل مباشر ، ومن النظام وروسيا وايران بشكل غير مباشر، والتي تسيطر على أهم ثروات سوريا وهي الأغنى والأريح ماديا أكثر من كل المناطق الاخرى ،مليارات الدولات من بترول سوريا وقمحها بيدها ،ناهيك عن الدعم اللامتناهي بالاسحلة الامريكية. رافعة مشروع تقسيم سوريا على النموذج العراقي على الأقل ، وهذا ما يهدد الأمن القومي التركي ،يقلق ويدفع تركيا للبحث عن حل يقضي على هذا المشروع قبل أن يصبح خارج السيطرة ويستعصي حله.

4- منطقة  ادلب التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام وتملك القوة العسكرية وحكومتها المدنية التي تسيطر على معابر حدودية مع تركيا ، رغم تصنيفها بقائمة المنظمات الارهابية لكنها موجودة على أرض الواقع ولها علاقاتها وهي ضمن معادلات القوة بل تسعى وتراهن على أن تكون هي البديل الاقوى وتحاول بناء علاقات دولية بشكل مباشر وعلني .

5- المناطق المحررة من سيطرة النظام التي تسيطر عليها قوى المعارضة والجيش الحر(الجيش الوطني) تحت اشراف تركيا ،درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام .

هذه المناطق التي كانت حلم لكل السوريين الاحرار بأن تكون البديل الأمثل الذي يجعل العدو قبل الصديق يعترف بأن السوريين لم يخطئوا بثورتهم وأنهم قادورن على ان يبنوا سوريا الأمل من جديد

فهل تحقق هذا الحلم على هذه الرقعة الصغيرة كما يحلم السوريون!!؟؟

أمام هذا الواقع المزري يبحث السوريون عن مخرجاً وحلاً ، وتكاد السنايروهات المطروحة محصورة ضمن هذه الاحتمالات الآتية:

البقاء على هذا الواقع الراهن من التشرذم والتبعثر "واللاحل" ، هذا الواقع يخدم قسد وأمريكا أولا ،و النظام وروسيا وايران ثانيا ، لكي تثبت اقدامها قسد وتتمكن أكثر وأكثر ،ولكي يلتقط النظام انفاسه وهو غير آبه بما يحدث للمواطن -الذي قتله – اقتصاديا ومعيشيا ، وهويراهن على عودة العلاقات العربية والدولية وعودة الاموال ،وتغير الاوضاع بايران وروسيا.

الخاسر الأول من هذا الوضع هو الشعب السوري بشكل اساسي  وتركيا والمناطق التي تدعمها،لأسباب لا يتسع المقال لذكرها.

تثبيت الواقع رسميا ،واضفاء الصفة الرسمية على هذه الكنتونات  الحالية ، يعني التقسيم .

قد يظن البعض أن النظام يرفض هذه الفكرة جملة وتفصيلا ، لكن حديثه في بداية الحراك السوري عن "سوريا المفيدة" دليلاً على أنه ومنذ البداية كان مستعدا لكل الاحتمالات والسناريوهات ، المهم البقاء بكرسي الحكم ولو على جزء صغير من سوريا.

السؤال اليوم ،هل بقيت له سوريا المفيدة أم أن حتى هذا الحلم لم يعد موجودا على أرض الواقع.وقسد وأمريكا سيصفقون لمثل هذا الحل وسيدعموه بكل مايملكون.

التقسيم ايضا هو الحل المرفوض تركياً ويجب أن يكون مرفوضاً عربيا من خلال أفعال وخطوات تمنع التقسيم وليس من خلال بيانات الرفض والتنديد.

اسقاط النظام بدمشق وعودة سوريا للسوريين ،وتحقيق حلم الملايين من السوريين الذين قدموا الغالي والنفيس من أجل بلد تسوده العدالة والحرية والسيادة الوطنية .

 

هو حلم كثير من السوريين وهذا الذي كانوا ينشدونه ،ومن أجله ضحوا بمئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين والملايين من المهجرين والنازحين ...

وربما أصبح مطلب كثير من الموالين بعد تجرع آلام ونتائج بقاء النظام واستمراه.

هل هذا ممكناً بعد اليوم ، ضمن موازين القوى الحالية على الأرض السورية!!!؟؟

وخاصة بعد تَقبُل بعض الدول العربية والاقليمية والاوربية لفكرة :

"الاسد باق ولا حل بدون الأسد"...

بالمقابل لايزال كثير من السوريون ينادون وثابتون على شعار أن :

"لا حل بوجود الأسد"

التصالح مع النظام ، والتصالح إمابالاستسلام للنظام والاعتراف بالفشل والعودة لبيت الطاعة من خلال البوابة الأمنية ،وهذا من يفهمه النظام من المصالحة .

أو من خلال المفاوضات وحل " لا غالب ولا مغلوب" وهذا يحتاج لمواقف دولية داعمة للشعب السوري ومشاركة عربية فعلية ..

لكن كل المؤشرات والتجارب بالسنيين الأخيرة  من لقاءات جنيف واجتماعات سوتشي والاستانة وجلسات اللجنة الدستورية تقول أن لا أفقاً يلوح هناك أيضاً.

ربما أتت فكرة " حلب " كمحاولة للتفكير خارج الصندوق والبحث عن حلاً بالمنطقة الرمادية بعيدا عن تشنج المواقف السياسية واللاءات والنظرة للأمور بإما أبيض أو اسود ، محاولة ايجاد صيغة لتحريك المياه الراكدة من جديد..

لكن يبدو أن هذه الفكرة رغم براءتها وصداها الجميل ستجد سداً منيعاً يجعلها موؤدة قبل ولادتها وغير قابلة للتنفيذ لأسباب  كثيرة من أهمها :

عدم قابلية النظام للاصلاح والتفاوض بسبب تركيبته العقائدية وارتباطاته الخارجية ونظرته المختلفة جذريا عن منطق الواقعية والحس الوطني .

فمنذ اليوم الأول لانطلاق فكرة المباحثات مع المعارضة قال وزير النظام السابق وليد المعلم عبارة اختزلت كل مسار العملية التفاوضية ، لقد قال "سنغرقهم بالتفاصيل " وهذا ماحصل بالفعل. لقد كان الهدف تمييع الامور وجعلها دوامة فارغة بدون جدوى.

الفكر الاجثاثي لدى النظام:

ربما غاب ايضا عن ذهن الكثييرن تصريحات بشار الاسد على قناة الجزيرة التي كانت تكررها قبل نشرات الأخبار ،مع أقوال المرحوم  أحمد الحفناوي ، الايقونة التونسية وهو يردد " لقد هرمنا" ، والمرأة المصرية التي كانت تقول "مافيش خوف بعد اليوم "، لكن بشار الأسد كان يقول: لدينا أزمة اخلاقية اجتماعية ،لم نستطع  القضاء عليها، فلكل معتقل  أهل وأخ وقريب ، وجار وزميل ، وصديق ، كان يوضح بشار الاسد أنه في حال عودة السيطرة والحكم من جديد فالهدف سيكون هو اجثاث كل من له علاقة او اي صلة مع كل من تحرك وشارك بالثورة . ومنع جذوة أي تطلع للحرية لعقود طويلة.

هذا الفكر الاجثاثي هو ما يخيف السوريين ويجعلهم يرجحون آلام اللجوء والنزوح على العودة لمناطق النظام . وسجل النظام حافل بهذه الانتهاكات الفظيعة،ولن يستطع أحد مسحها من سجل ذاكرة السوريين.

ومايقوم به النظام من تغيير ديموغرافي  ممنهج  منذ سنيين في حلب ودمشق ما هو إلا نموذجا عملياً لتطبيق هذا الفكر الاجتثاثي.

ولذلك تأتي فكرة عودة اللاجئين لحلب غير مطمئنة وغير مقنعة لهم طالما أنها ستؤول بالنهاية لعودة النظام وسيطرته عليها لاحقا طال الزمن أو قصر  من جهة ، ومن جهة أخرى فالنظام آخر ما يكمن ان يفكر به ويحرص عليه هو عودة من يعتبرهم أعداء النظام والوطن.

 

الوجود الايراني المتغلغل في كل مناطق حلب واريافها ومشروع التشييع الذي تعمل عليه وهي تسابق الزمن ،هي الاخرى ستكون من أهم الممانعين لهذه الفكرة من أصلها.اضافة للتواجد الروسي والامريكي هناك .

اذا كانت مدينة منبج ورغم صغرها وأهميتها مقارنة بحلب، ورغم الوعود الامريكية والروسية لم يُسمح للمعارضة وتركيا بالاقتراب منها، فكيف يمكن ان يتم تسليم حلب بما تعنيه ، بطبق من ذهب للمعارضة من جديد..!!؟

هذا الحل  كان ممكناً لو تم طرحه والتمسك به قبل سقوط حلب ،ذلك السقوط الذي كسر ظهر الثورة السورية بكل ماتعنيه الكلمة.

لكن عدم  امتلاك المعارضة لرؤية واضحة مرنة منفتحة على كل الاحتمالات والسناريوهات هو ما جعل السوريين يدفعون أثماناً باهضة حتى هذا اليوم.

 

وضع المناطق المحررة ورغم الجهود الكبيرة المبذولة لتحقيق الأمن والاستقرار  وتأمين البنية التحيتة ،فإن هذه المناطق لاتزال مع الأسف الشديد لم ترق لتكون البديل الذي يستهوي السوريين ويشجعهم للعودة . وهنا يجب أن يصارح السوريون و المعنيون أنفسهم ، ولا يدفنون رؤوسهم مثل النعامةبالتراب، بل عليهم أن يمتلكوا الشجاعة وتقييم الواقع كما هو والاعتراف  بالأخطاء الكبيرة التي وقعوا بها والسلبيات التي منعتهم من تحقيق الهدف المنشود و البديل الذي يقنع العدو قبل الصديق ،بأحقية ما قام به السوريون من تضحيات .

هذا الناحية المهمة والاساسية لو يتم التوقف عندها بجدية ومهنية بعيدا عن التخندق والتشنج والمصالح الشخصية من خلال مراجعة ذاتية حقيقة لمعالجة الأخطاء واصلاح السلبيات فهي كفيلة بحد ذاتها لعودة كثير من اللاجئين من جهة، وستكون داعمة لفكرة "حلب" من جهة اخرى ،هذا في حال تم امكانية تطبيقها أصلا...

اصلاح المناطق المحررة اصلاحاً حقيقياً وجذريا أولاً،

واعطاء الناس هناك تطمينات وضمانات بعدم تركهم تحت رحمة النظام ثانياً

هما أهم ركيزتين هامتين لكل مشروع ومقترح وحل مستقبلي.

وبدونهما لا يكمن لأي فكرة أن تجد الضوء في هذا النفق المظلم...

ويظل السؤال الدائم أمام هذا الاستعصاء العنيد هو ماهو الحل؟

وطالما فكرة "حلب" انبثقت من خلال العصف الذهني والتفكير بالمنطقة الرمادية ومحاولة لتحريك المياه الساكنة وأمام كل هذه المعطيات  

وتماشياً مع هذا التفكير لماذا لايكون الحل هو " لاغالب ولا مغلوب " هو الحل الأكثر قابيلة للتطبيق ..يعني حلاً أقرب للحل المصري والتونسي

دمشق بدون الأسد وبدون الفصائل المسلحة ..

دمشق يحكمها أهلها الحقيقيون..

دمشق وحلب وادلب وكل سورية للسوريين ..

هل هذا ممكنا وكيف !!؟؟

هذا يحتاج لتفصيل أكثر وشرح مطول بمقال آخر ولكن يمكن القول

أن الحل ليس حلب ولا الأسد

والحل الحقيقي هو " دمشق بدون الأسد"

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس