د. إبراهيم عبد الله سلقيني - خاص ترك برس

قبلت تركيا بالحِمْل الأكبر والتحدي الأعظم في القضية السورية، وهو الكتلة السكانية..

هكذا يمكننا امتلاك التصور الأولي للصراع بين الدول؛ فأمريكا نامت فوق منابع البترول شرق سوريا، وروسيا وضعت يدها على حنفيات الغاز الطبيعي في الساحل السوري.

ومع ذلك فأمريكا وروسيا في ذات الوقت ينافسان تركيا على الكثافة السكانية التي تحملت تركيا أعباء إدارتها في الشمال السوري، مع أنهما عاجزتان عن إدارتها وضبطها...

كلا الدولتين الأمريكية والروسية عاجزتان عن إدارة هذه الكثافة السكانية الضخمة، لكن أمريكا لا تطمع بإدارتها، وإنما تطمع في إفشال الإدارة التركية، وتسعى بشكل حثيث لضرب الحلف الروسي التركي لعلها تحظى بغاز الساحل أيضاً، إضافة للبترول الذي تنام عليه الآن، أما السكان فيكفيهم حينئذ دكتاتور مدعوم أمريكياً لثلاثة عقود أخرى لقمعهم وليس لإدارتهم كما هي عادتها!! أما روسيا فلا تستطيع إيقاف الأطماع الأمريكية غير المتناهية، ولا تحقيق الاستثمار الاقتصادي الأمثل للمنطقة التي دمرتها إلا بالتعاون مع تركيا، وذلك للأسباب التالية:

1- قطع الخط الطائفي الذي استمرت أمريكا في بنائه خلال عقود ماضية من وسط أفغانستان إلى لبنان، مروراً بإيران والعراق وسوريا، ولكن من خلال كتلة سنية قوية لكن محدودة جغرافياً، حتى لا تتضخم مع الزمن وتصعب السيطرة عليها، وهذا لا يتحقق إلا بتسليم إدارة حلب لتركيا، مع بقاء القوة العسكرية الروسية فيها؛ لأن روسيا عاجزة عن الإدارة المباشرة لحلب، ولا تثق بآل الأسد الذين استخدموا الاتحاد السوفيتي من قبل عام 1980م ثم ناموا في أحضان أمريكا، بينما تركيا تفي بتعهداتها والتزاماتها.

2- تحقيق التوازن الطائفي بين الشمال السني والجنوب الباطني، وغرز روسيا لحربتها في المنطقتين معاً، وبالأخص المنطقة السنية التي لا يمكن أن تقبل بوجود القيادة الروسية وتنفر منها، بينما هي تنساق وتنخدع بالوعود الأمريكية التي لا تقل خطورة عن القنابل الارتجاجية الروسية، وهذا لا يتحقق دون إدارة سنية برأس واحد في حلب، ويفي بالتزاماته لروسيا.

3- تركيا يمكن الوثوق بها في الاقتصار على الإدارة المدنية فقط في حال سلمتها حلب، وتفي بالتزاماتها كاملة تجاه الروس، خلافاً لما عليه حال روسيا وأمريكا من الغدر إذا سنحت لهما الفرصة.

4- تريد مشاركة تركيا في عوائد إدارة الكثافة السكانية دون أن تخسر شيئاً، ودون أن تكلف نفسها المشاركة في أعباء تلك الإدارة على الإطلاق!! وهذا لا يستطيع القيام به إلا تركيا ذات التجارب السابقة في إسطنبول قديماً وتركيا كلها حالياً.

5- في حال بقاء حلب بيد الأسد فهذا يعني أن الأسد سيضغط على التجار والصناعيين في حلب بالضرائب العالية لسداد فاتورته للروس والإيرانيين كما فعل في الثمانينات، وهذا سيؤدي لطفش التجار والصناعيين وهروبهم باتجاه تركيا، وهذا يؤدي لخروج هذه الأموال من يد الروس من جهة، وقيام تركيا بتجنيسهم وإعادة تفعيلهم في مناطق درع الفرات وإدلب، وبالتالي استفادة تركيا وحدها منهم ومن أموالهم من جهة ثانية.

6- في ظل إدارة اقتصادية تركية ذات كفاءة عالية، وفي ظل قوانين الاستثمار التركية ستضمن روسيا الحصة الأكبر من أرباح المدينة الصناعية والتجارية السورية؛ لأنها صاحبة النفوذ العسكري في حلب.

وبذلك تضمن روسيا أن تحلب مناطق الأسد بسداد الديون والدكتاتورية، وتستثمر الشمال السوري بالشكل الأمثل بالشراكة مع الأتراك.

7- الوجود التركي الفاعل بالطريقة السابقة في الشمال السوري يضمن عدم تخلي آل الأسد عن روسيا تماماً كما فعلت من قبل، وعدم النوم من جديد في حضن أمريكا، وبالتالي عدم "خروج روسيا من المولد السوري دون حُمُّص" كما يقول المثل، فلا يتكرر معها ما حصل مع بريطانيا في العراق عندما دخلت مع أمريكا، ولا ما حصل مع الدول التي دخلت أفغانستان مع أمريكا.

8- عودة الناس إلى بيوتهم في حلب، واستقرار أهالي حمص ودمشق معهم في حلب سيضمن أن يقوم الناس بإعادة إعمار بيوتهم التي خربتها روسيا، وبالتالي لن تدفع روسيا قرشاً واحداً في إعادة الإعمار!!!

9- لن تعارض أمريكا هذه الخطوة في مقابل الرشوة الكبيرة التي حصلت عليها، وهي النوم على آبار النفط، كما لن تعارض الصين هذه الخطوة في مقابل وضع اقتصادي خاص بالشمال السوري كاملاً، وينص على السماح باستيراد البضائع الصينية، خلافاً لما هو عليه الوضع في القانون التركي!!

10- الاستفادة من فواتير إعادة الإعمار في الشمال السوري من خلال عقود في الباطن مع الشركات التركية، وستكون حينئذ أرباحها لصالح روسيا أكبر من العقود مع النظام الأسدي الذي تنتشر فيه الرشوة والفساد المالي، وبالتالي انحراف عوائد العقود لمصلحة الأفراد وخسارة الدولة الروسية!! كل هذا يرجح أن تطلب روسيا من تركيا أن تقوم بإدارة مدينة حلب مدنياً واقتصادياً، مع بقاء السلطة العسكرية بيد روسيا، وكذا الإدارة الأمنية المدنية فستحتفظ بها روسيا بيد الشرطة العسكرية الشيشانية.

بل ربما تزيد على ذلك الريف الشمالي لحمص؛ لضمان الاستفادة من عوائد مرور أنابيب البترول الأمريكية القادمة من العراق وشرق سوريا باتجاه الساحل.

لكن هل ستدير روسيا شمال حمص بالشراكة مع تركيا، أم ستديره منفردة ولن تقبل بالشراكة التركية هناك؟!!

وإذا كانت الأنابيب ستكمل طريقها ضمن النفوذ التركي وستحصل تركيا على أجرتها، فلماذا ترفض روسيا تحمل تركيا لتكاليف إدارة الكتلة السكانية هناك أيضاً؟!! وهذا ما ستحدده بدقة أكبر خريطة الساحل المستقبلية، وتوازن المصالح الاقتصادية بين أطراف الصراع الحقيقيين هناك، حيث سيتدفق البترول في ناقلات النفط التي ستشحنه حول العالم!!! ويبقى السؤال الذي أكرره دوماً: ما هو موقعنا نحن من الخريطة الدولية؟!!

فلا نحن قادرون على الاستقلال بقرارنا في ظل التشرذم العسكري وعدم انصياع العسكر للسلطة المدنية، بل عبثها بها أيضاً، ولا نحن نعلن بوضوح وصراحة شراكتنا التامة مع تركيا لنظفر بحلب سياسياً بعد أن فرطنا بها عسكرياً بسبب تشرذمنا!! بل الأسوأ من ذلك أن نقوم بالتدمير الذاتي لأي قوة مستقلة بقرارها تنشأ بيننا، وباتهام من يتحالف مع تركيا بالخيانة، بينما ينام الأسد في أحضان إيران وروسيا والصين لتحصيل مصالحه منها... 

فهل نحن وصلنا لدرجة نعجز معها من تحصيل مصالحنا السياسية تحت السقف التركي أيضاً؟!!

عن الكاتب

د. إبراهيم عبد الله سلقيني

دكتوراه في الفقه الاجتماعي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس