ترك برس

شهدت ليبيا مؤخراً، عودة للصراع المسلح الذي توقف لفترة لا بأس بها، وذلك بين كلٌّ من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ورئيس الوزراء المكلف من البرلمان فتحي باشاغا، وكلاهما طرفان مقربان من أنقرة، وعلى تواصل معها، ما وجه الأنظار إلى تركيا من جديد، وعما إذا كانت قادرة على الانخراط في وساطة بين الجانبين.

الانخراط التركي

ربطت تركيا بليبيا قبل الثورة مصالح عديدة؛ في مقدمتها الشركات والاستثمارات التي نشطت هناك، بما أربك الموقف التركي بعد الثورة مباشرة، قبل أن تصطف أنقرة بشكل كامل وواضح مع الوضع المستجد بعد القذافي.

وعلى مدى سنوات طويلة لم تربط البلدين علاقات مباشرة ومعمقة، إلا أن اكتشافات الغاز في شرق البحر المتوسط فرضت معادلات جديدة ومختلفة على الجميع، وفي مقدمتهم تركيا وليبيا، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت."

وفق الأوضاع المستجدة، وعلى هامش الاصطفافات في المنطقة؛ مثّلت العلاقات بين تركيا وليبيا مصلحة إستراتيجية في بعدين رئيسيين: الأول ما يتعلق بأمن الطاقة، خاصة كميات الغاز الطبيعي المتوقعة في شرق المتوسط، والثاني سياق التنافس الجيوسياسي في المنطقة مع أطراف عُدَّت خصما لها لسنوات طويلة.

ومع إعلان منتدى غاز شرق المتوسط الذي حاول تهميش تركيا وتجاهل مصالحها وحقوقها في بداية عام 2019، وقعت تركيا مع حكومة الوفاق الوطني في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه اتفاقين: أحدهما لترسيم الحدود البحرية بين البلدين بما يخدم حقوقهما في مواجهة السردية والمطالب اليونانية، والثاني للتعاون الأمني والعسكري بينهما.

وبناء على الاتفاقية الثانية طلبت حكومة الوفاق بقيادة فايز السراج من تركيا الدعم في مواجهة محاولات حفتر السيطرة على العاصمة طرابلس. وكان للتدخل التركي إسهام مباشر في وقف مسار الحلول العسكرية واعتماد المسار السياسي، الذي أفضى من خلال الحوار الوطني إلى انتخاب مجلس رئاسي جديد وتأسيس فترة انتقالية كان يفترض أن تنتهي بانتخابات عامة في ديسمبر/كانون الأول 2021.

مقاربة مختلفة؟

منذ لحظة الانخراط الأولى في المسألة الليبية، حافظت أنقرة على هدفين رئيسين لها هناك: الحفاظ على الاستقرار ووحدة الأراضي الليبية (ومن هنا جاء دعم الحكومة الشرعية المعترف بها)، ودعم فكرة الحوار وتأكيد مسار الانتخابات، بحيث مثّلا مصلحة مشتركة لتركيا وليبيا معا، وبما يمكن أن يحفظ لتركيا دورها وتأثيرها في القضية الليبية.

ولذلك فقد انتقل الدعم التركي من حكومة الوفاق إلى حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة، بعدِّها الحكومة الشرعية المعترف بها. وقد كانت الأخيرة كذلك في غاية الحرص على استمرار العلاقات الجيدة مع أنقرة، بل وتطويرها واستمرار دعم الأخيرة في مختلف المجالات، وعقد الجانبان اجتماعات لمجلس التعاون الإستراتيجي بينهما.

بيد أن المتغير الأهم في الشأن الليبي كان تعثر تنظيم الانتخابات نهاية العام الفائت من دون تحديد موعد جديد وتعمق الخلافات بين الفرقاء الليبيين، ثم تكليف مجلس النواب فتحي باشاغا بتشكيل حكومة جديدة من باب أن حكومة الوحدة فقدت شرعيتها مع موعد الانتخابات التي لم تُجرَ، بينما تمسك الدبيبة باستمرار حكومته لتصريف الأعمال حتى إجراء الانتخابات مستقبلا.

هذه التعقيدات السياسية أعادت إنعاش الرهان على الحلول العسكرية، فحاول باشاغا أكثر من مرة دخول طرابلس عنوة لتسلم السلطة فيها، من دون أن يستطيع ذلك، وفي كل مرة كان الموقف التركي رافضا هذه التحركات العسكرية وداعيا للحوار.

وكان من اللافت أن بيان الخارجية التركية بخصوص الاشتباكات المسلحة في طرابلس نهاية الشهر الماضي لم يشمل انحيازا أو اصطفافا واضحا في الأزمة، ولا دان طرفا محددا بالاسم، وإن تضمن موقفا داعما لبقاء الوضع الراهن؛ وبالتالي حكومة الدبيبة بطبيعة الحال. فقد طلب البيان من "الأطراف إسكات الأسلحة والتركيز على حل مشاكلها بطريقة سلمية"، وأكد ضرورة "إجراء انتخابات عادلة وحرة في أقرب وقت (…) لضمان استقرار البلاد وازدهارها وأمنها"، خاتما بأن تركيا "تقف دائما إلى جانب أشقائها الليبيين كما فعلت حتى اليوم" لإرساء السلام والاستقرار الدائمين.

ولئن نُظر لفتحي باشاغا على أنه رجل تركيا في ليبيا سنوات طويلة، فإن الدبيبة كذلك نسج علاقات أكثر من جيدة معها خلال الفترة السابقة وهو على رأس الحكومة. علاقات أنقرة الوثيقة مع الرجلين ومواقفها الداعية دائما للحوار والاعتماد على الانتخابات لا الصدام لحل المشاكل العالقة تعزز فكرة الوساطة التركية بين الرجلين والفريقين.

ومما يساعد على فكرة الوساطة، إضافة إلى العلاقات الجيدة مع كليهما، انفتاح تركيا مؤخرا على القيادات السياسية في الشرق وانفتاح الأخيرين عليها، ومسارات التهدئة والحوار في المنطقة مع دول فاعلة في الشأن الليبي مثل مصر والإمارات. لكن المشهد الليبي الداخلي بدا معقدا ورافضا لفكرة الحوار والوساطة حتى اللحظة، وهو تحدٍّ تدركه أنقرة بالتأكيد وتعمل على تذليله.

ورغم أن كلا من الدبيبة وباشاغا اجتمعا مع القيادات التركية -وعلى رأسها أردوغان- على حدة، ورغم أن احتفاء أنقرة بباشاغا سياسيا وإعلاميا كان أقل بكثير من احتفائها بالدبيبة؛ بما يعني عدم إقرار الأول على مساره السياسي والميداني، فإن الزيارة المتزامنة تحمل بشكل واضح معنى السعي للتوسط بينهما. وهو الأمر الذي أكده سفير تركيا في ليبيا كنعان يلماظ الشهر الفائت حين قال إن بلاده "تتواصل مع جميع الأطراف، ومستعدة للوساطة لحل الأزمة وتجنيب البلاد زعزعة الاستقرار والوصول للانتخابات".

الوساطة التي يمكن أن تقوم بها أنقرة من الصعب أن تتخطى أسس موقفها في ليبيا، أي دعم الحكومة الشرعية وترسيخ الاستقرار وتأكيد فكرة الحوار والانتخابات، ولذلك فليس من المتوقع أن تدعم أنقرة مساعي باشاغا لرئاسة الحكومة. من الممكن (ومن الصعب أيضا) أن تدعو أنقرة لاستمرار حكومة الدبيبة مع تحديد موعد قريب ومعقول للانتخابات، أو -وهذا هو الأرجح- تشكيل حكومة جديدة برئاسة شخصية ثالثة غيرهما تكون مهمتها إيصال البلاد إلى الانتخابات العامة بعد توافق سياسي وتأطير قانوني.

يمكن في الآونة الأخيرة ملاحظة تطوير تركيا موقفها في ليبيا نحو الانفتاح على جميع الفرقاء، بمن فيهم شخصيات "الشرق اللبيي"، حيث استقبلت رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وكذلك أبناء خليفة حفتر، وفق ما أفاد به باشاغا نفسه.

وهذا، وإن لم يكن انقلابا جذريا في الموقف التركي، فإنه متغير مهم وذو دلالة؛ فرغم أن رفض أنقرة الحلول العسكرية يعني بالتأكيد استمرار دعمها لحكومة الوحدة الوطنية، فإن تصريحات مسؤوليها لا توحي باصطفاف واضح ورسمي معه ضد باشاغا الذي ما زال يعتز "بعلاقات الصداقة المتينة جدا" التي تجمعه بتركيا، والتي "بنيت في أوقات صعبة ولن تتغير أبدا"، على حد تعبيره.

وعليه، فالمستجد في الموقف التركي -مع الإبقاء على المحددات الرئيسية له- هو عدم وضع كل البيض التركي في سلة واحدة، والإبقاء من جهة على مساحة حياد نسبية تتيح إمكانية الوساطة وتسهم في إنجاحها (بشكل شبيه من زاوية ما بوساطتها بين روسيا وأوكرانيا)، ومن جهة ثانية على خيارات متعددة في المستقبل تحافظ على المصالح التركية في ليبيا ولا تضعها في مهب الريح بين يدي أي تغيير داخلي، وبما يحافظ على دور أنقرة وتأثيرها في الشأن الليبي مستقبلا.

يفسر ذلك -في رأينا- مواقف تركيا المتكررة على هامش الصدامات الداخلية بين الدبيبة وباشاغا، التي تدعو للحوار والانتخابات، وتتجنب ذكر الأسماء والفرقاء تأييدا وتنديدا، وتؤكد استمرار "دعم تركيا للأشقاء الليبيين"، رغم عدم تغيير موقفها الداعم لحكومة الوحدة الوطنية بالتأكيد.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!