
د. عطية عدلان - خاص ترك برس
بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
هذه الدنيا - على امتدادها وتتابع الوقائع فيها - لا يقع فيها شيء إلا وللإسلام فيه حكم، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، قَبِلَهُ مَنْ قَبِلَهُ وجَحَدَهُ من جَحَدَهُ؛ ذلك لأنّ الإسلام دين عام وشامل، والعموم والشمول من خصائصه التي تميز بها، قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89)، فهل للإسلام حكم في هذه الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وما شابهها؟ بالقطع - وبموجب ما قدمنا - أَجَلْ، للإسلام حكم فيها وفي جميع ما يتعلق بالسياسة والحكم.
وأبدأ ببيان القاعدة الأولى (قاعدة المسئولية) التي يبرزها حكم التصويت الانتخابيّ، فإنّ الإسلام يتميز عن النظم الغربية بجعله التصويتَ والاختيارَ وظيفةً سياسيةً ومسئولية أخلاقية وليس مجرد حق، وبذلك يحسم الجدل الغربي الذي دار بين المدارس الفكرية حول كون الانتخاب حق أم وظيفة، فهو وظيفة وحق في ذات الوقت، لذلك أجمع الفقهاء على أنّ الإمامة من فروض الكفايات، أي أنّه يجب على المسلمين أن يقوموا باختيار من يحكمهم، أمّا من يتعلل بأنّ الديمقراطية ليست من الإسلام ويقعد عن اختيار الأصلح للأمة فهو مخطئ؛ لأنّه يخلط بين حال القدرة والاختيار وحال الضعف والاضطرار، فالواجب لا يختل في الحالين، لكنّه يأخذ لكل حال من الحالين من الأدوات ما يناسبه، فإذا اكتملت قدرة المسلمين على الاستقلال وعلى إقامة نظام إسلاميّ لم يجز لهم العمل بغيره، وعند عدم قدرتهم على ذلك وجب أن يعملوا بقاعدة: "الميسور لا يسقط بالمعسور" فيسعون إلى اختيار من يصلح به أمر دينهم ودنياهم، ولا يتخلفوا فيترتب على تخلفهم تسلط السفهاء والفساق والمنافقين، وإذا كان لهم اعتراض على مرشح، بينما يعلمون علم اليقين أنّ البديل شر وبلاء على الأمة؛ سعوا لاختيار الأقل فسادا؛ من قَبِيلِ "اختيار أهون الشرين" و"ارتكاب أخفّ الضررين"، وهي قاعدة من قواعد المجلة متفق عليها.
أمّا القاعدة الثانية فهي (قاعدة الأمانة) وتقتضي تقديم مصلحة الأمّة عند الاختيار: فلا يجوز لمسلم أن يختار رئيساً أو نائبا عن الشعب لمجرد انتمائه لحزبه أو لقومه أو لجنسه أو لعرقه أو لقبيلته، إلا إذا كان يراه الأجدر والأكفأ والأصلح، وإلا كان شاهداً شهادة زور يضر بها الخلق ويعصي بها الخالق، فليس الاختيار إبداء رغبة، وإنما هو شهادة باستحقاق الشخص المختار للوظيفة المرشح لها، فهي أمانة والتفريط فيها تضييع للأمانة، والأصلح الأجدر هو الذي تطمئن النفس إلى أنَّه أكثر من غيره من المرشحين لنفس المنصب أمانة وقوة وكفاءة وجدارة، وليس المنسوب إلى قومه أو جنسه أو عرقه أو حزبه، فإذا علم المسلم أن المرشح لولاية عامة سيكون - بصورة ما - سببا في عودة الظلم الذي كان يمارس على المسلمين، وذريعة لاستطالة المجرمين على أهل الدين؛ لم يجز له الإقدام على انتخابه حتى ولو كان أخاه أو أباه؛ لأنّ هذا مصادم تمام المصادمة لمقاصد الحكم؛ لذلك قال الإمام الجوينيّ: "وترك الناس سُدىً ملتطمين، لا جامع لهم على الحق والباطل، أجدى عليهم من تقريرهم على اتباع من هو عون الظالمين، وملاذ الغاشمين، وموئل الهاجمين، ومعتصم المارقين الناجمين".
وأمّا القاعدة الثالثة فهي (قاعدة العدل) أعني العدل في وزن الرجال، قال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: 152) فإنَّ الرجل يوزن بجملة أقواله وأفعاله، ومجمل تاريخه وإنجازاته، فلا يصح أن نحصر النظر إلى فعلة فعلها أو كلمة قالها؛ ثم ننسف له جميع فضائله، أو نسوي بينه وبين من لا يرقى إلى عشر منزلته، والحكم مساربه دقيقة ومسالكه عويصه، وخياراته في كثير من المواقف غاية في الصعوبة، والسياسة مبناها على الموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد، وما من عمل فيه إلا وهو مشدود بين الطرفين: الخير والشر، وعمل السياسي هو تغليب الخير على الشر بقدر الإمكان؛ لذلك يقول الإمام الموصلي بهذا الصدد: "مدار الشريعة على قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} المفسر لقوله تعالى (اتقوا الله حق تقاته) وعلى قوله صلى الله عليه وسلم (اذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)".
أمّا القاعدة الرابعة فهي (قاعدة الميزان) أي إعمال القواعد الفقهية الكلية عند الالتباس؛ فإنّ الأمَّة ليست متروكة هملا بلا هدى ولا بينات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين ما نُزِّلَ إليه من ربِّه أتمَّ البيان؛ إنفاذا لأمره تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44)، وتركنا (على المحجة البيضاء) أي: جادة الطريق، وقد استخرج العلماء - بطريق الاستقراء التام لنصوص الشرع وأحكامه وموارده ومقاصده - قواعد كلية تهدي المسلم عندما تلتبس عليه السبل ولا يجد في النازلة نصاً، من هذه القواعد الثابتة ثبوتاً قطعياً قاعدة: "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما" فإذا وجدت مفاسد أو محظورات أو أضرار متزاحمة بحيث لا يمكن تفويتها جميعاً "وَكَانَ مِنْ الْوَاجِبِ أَوْ مِنْ الضَّرُورِيِّ ارْتِكَابُ أَحَدِ الضَّرَرَيْنِ فَيَلْزَمُ ارْتِكَابُ أَخَفِّهِمَا وَأَهْوَنِهِمَا"، وقد سبقت الإشارة إلى قاعدة: "اختيار أهون الشرين وارتكاب أخف الضررين".
ومجمل ما تهدي إليه هذه القواعد: أن ينظر المسلم إلى ما يؤول إليه اختياره، وإلى ما تؤول إليه الأوضاع إذا وقع وتحقق هذا الخيار، فإن غلب على ظنِّه أنَّ هذا سيؤول إلى عودة ظلم كان قد زال وانقضى، أو إلى إثارة فتن قد يكون معروفا من هو وراءها ومن المستفيد منها؛ فعندئذ لا يجوز له أن تحمله عصبية أو يستفزه غضب أو يثيره شيء في نفسه إلى ترجيح ذلك الخيار، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
أمّا القاعدة الخامسة فهي (قاعدة الرشد) ويتجلى أثر الرشد في الاستعصاء على تأثير الإعلام الخبيث، والدعاية الكاذبة المغرضة؛ فإنّ كثيرا من الناس تستفزهم الحملات الإعلامية لارتكاب جريمة التصويت العقابيّ، وهي جريمة سياسية لا يدرك الناس حقيقتها إلا بعد أن يسلمهم التصويت العقابيّ المتشنج الذي يسميه بعض مفكري الغرب مثل "ألان تورين" تصويت الرفض، حين يسلمهم إلى الكارثة، وقد وقع هذا في أكثر دول الغرب التي تعد من أعتى الديمقراطيات، فقد أسلمها التصويت العقابيّ المتشنج إلى قبضة اليمين المتطرف الذي صار يهدد بعنصريته الحريات وحقوق الإنسان وجميع المكتسبات التي تحققت للغرب على مدى تاريخه، إلى حد الخوف من عودة الاستبداد الحقيقيّ الذي فرت منه.
إنّ الكذب الذي تمارسه وسائل الإعلام المغرضة يصب الناس باضطراب الرؤية، لذلك حَذَّرَ منه كثير من مفكري الغرب، مثل "موريس دوفرجيه" الذي يقول إنّه يؤدي إلى "تَبْلِيْهِ الجمهور" أي إصابتهم بالبلاهة، لكنّ الإسلام هو دين الرشد؛ فلا يخدعنك الكاذبون والمنافقون ممن لا يتقنون إلا الزعيق.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس