علي الصاوي - خاص ترك برس

كانت الساعة الثالثة في منتصف الليّل وأنا جالس أقرا في كتاب والأجواء طبيعية، لا ضوضاء تقطع حبل الأفكار ولا برودة قاسية تُعجّل بالرقد على صهد المدفأة بالغرفة، وما هى إلا لحظات ورأيت دولاب الغرفة يتراقص ذات اليمين وذات الشمال كالريشة في الهواء، والسرير يهتز، لم أستوعب ما يحدث وقمت مسرعا وسط الشقة لا أدرى ماذا أفعل، شلل حركي وفكري تام، اهتز البناء الذي أسكن فيه مثل أطباق الحلوى السائلة، كانت رجّة قويّة بلا خسائر في الأرواح أو الممتلكات، كانت الخسائر هناك في مدينة دوزجة شمال غرب تركيا مركز الهزّة الأرضية، واتضح أن ما عِشته من رعب للحظات كان ارتدادا لزلزال قُدّر على مقياس ريختر بـ5.9.

لحظة مرعبة عشتها لمجرّد ارتداد بسيط لم يستغرق ثواني لزلزال يبعد عنّي آلاف الكيلومترات، ورغم ذلك جفّت الدماء من عروقي وغشيتني رعدة شديدة بقى أثرها معي حتى صباح اليوم التالي، وبعد زلزال تركيا وسوريا الأخير وما رأيناه من مشاهد مروعة وانهيار تام لكل شيء، سألت نفسي سؤالا ماذا لو كنا مكانهم؟

ماذا لو كنّا نحن أبطال تلك الأخبار المتداولة في وكالات الأنباء؟ ماذا لو كنا أبطال الصور والفيديوهات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي؟ ماذا لو كنّا نحن من يجلس على حطام المنازل ننتظر نجاة أخ أو اخت أو ابن أو زوجة أو صديق؟ أسئلة طرحتها على نفسي في غُمار التأثّر بما شاهدناه جميعا من لقطات مُحزنة وما صاحبها من مشاعر إيثار وإنسانية كانت هى بطلة المشهد، مشاهد بقدر ما بها من ألم ومعاناة، إلا أنها جسّدت معاني الأخوة والرحمة بين المنكوبين، وقد كنا منذ شهور نعاني من نغمات عنصرية بغيضة وكراهية لم يسلم منها أحد إثر خطابات فاشية عمياء لا ترى إلا المصالح السياسية الضيقة، وتريد أن تحرم الناس من رحمة وسعت كل شيء، فجاء الزلزال حاملا معه رسالة بليغة تقول: إذا كانت السياسة تُفرّق وتُقلّب الناس بعضها على بعض فإن الطبيعة كفيلة بأن تصلح ما أفسدته السياسة، وتُعيد التئام شروخ إنسانية بين البشر لم تلتئم منذ سنوات، جاء الزلزال ليقول بصوت عالٍ إن نجاة البشرية يكمن في التواصل والتكافل الاجتماعي، لا في الأنانية والجشع ونبذ الأخر. 

لو كنت مكانهم لما فعلت أكثر مما فعلوا، ربما استسلمت لموت محقق تحت الأنقاض، وربما نجوت وانخرطت بين  فرق الإنقاذ أبحث عن العالقين تحت الركام، وربما لم أصَب فأقف مذهولا  بجوار ساتر ترابي من شدة الصدمة وأعجز عن فعل أى شيء، أو أجلس على صخرة بيت محطم أراقب المشهد بألم نفسي وجوارح خرساء، تعجز عن حمل حجارة صغيرة، مثل ذاك الأب الذي لم يستطع حمل ابنه الصغير حين عثر عليه بعد أيام من شدة الصدمة وهول الموقف. 

 كل يوم وأنا جالس أنظر إلى دولاب الغرفة وأقول: يا ترى هل ستهتز مرة ثانية؟ وهل ستكون هزة عنيفة أم مجرد ارتداد؟ ثم أُخرج رأسي من النافذة وأنظر إلى أعلى البناء أعد أدواره متخيلا سقوطه وفرص النجاة إذا حدث لا قدر الله زلزالا عنيفا، هكذا جعلني الزلزال الأخير أضع نفسي مكان الضحايا كل يوم، وذلك عطفا على تقديرات تقول إن إسطنبول قد ينتظرها زلزالا بقوة 7 ريختر قد يحدث في أى وقت، لكن ثقتنا بالله كبيرة أن يرحمنا ويصرف عنا كل مكروه وسوء. 

اهتزت الأرض في تركيا وسوريا  فأخرجت معها كثير من المعاني والعِبر، أن لا نجاة للبشرية سوى بالتضامن والإيثار والمواسة، فالإنسان لا يستطيع أن يهرب من المحن والكوارث مهما اتخذ من تدابير الحماية، لكنه يستطيع أن يحافظ على ما تَبقى في نفسه من مسؤولية إنسانية وأخلاقية تجاه من حوله، فيتجلّى ذلك في كل قول وفعل في الرخاء والشدة وفي المنشط والمكره، ولعل يتحقق فينا قول الكاتب الفرنسي "ألبير كامو" في روايته "الطاعون" حين قال "إن الكوراث والأزمات تُعيد البشرية إلى فطرتها الأصلية، وهي الأخوة والتآزر."

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس