
د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس
نظَّم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جنده، بعد أن رأى طاعة الصَّحابة، وشجاعتهم، واجتماعهم على القتال، وعقد اللواء الأبيض، وسَلَّمه إلى مصعب بن عمير، وأعطى رايتين سَوْدَاوَيْن إلى سعد بن معاذٍ، وعليِّ بن أبي طالبٍ، وجعل على السَّاقة قيس بن أبي صَعْصَعَة.(أبي بكر الجوزية، 1979، 3/172).
وقام صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكرٍ يستكشف أحوال جيش المشركين، وبينما هما يتجوَّلان في تلك المنطقة، لقيا شيخاً من العرب، فسأله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن جيش قريش، وعن محمَّدٍ وأصحابه، وما بلغه من أخبارهم؛ فقال الشَّيخ: لا أخبركما حتى تخبراني مِمَّن أنتما؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أخبرتنا؛ أخبرناك» فقال: أو ذاك بذاك؟ قال: «نعم»، فقال الشَّيخ: فإنَّه بلغني: أنَّ محمَّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الَّذي أخبرني؛ فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به جيش المسلمين - وبلغني أنَّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني؛ فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي فيه جيش المشركين فعلاً - ثمَّ قال الشيخ: لقد أخبرتكما عمَّا أردتما، فأخبراني ممَّن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نحن من ماءٍ»، ثمَّ انصرف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عن الشَّيخ، وبقي هذا الشَّيخ يقول: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟. (الحميدي، 1997، (4/110)
وفي مساء ذلك اليوم الَّذي خرج فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكرٍ، أرسل صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالبٍ، والزُّبيـرَ بن العوَّام، وسعدَ بن أبي وقَّاصٍ، في نفرٍ من أصحابه إلى ماء بدرٍ؛ يتسقَّطون له الأخبار عن جيش قريشٍ، فوجدوا غلامين يستقيان لجيش المشركين، فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما: «أخبراني عن جيش قريشٍ» فقالا: هم - والله! - وراء هذا الكثيب الَّذي ترى بالعُدوة القصوى، فقال لهما: «كم القوم؟» قالا: كثيرٌ، قال: «ما عدَّتُهم؟» قالا: لا ندْرِي، قال الرَّسول صلى الله عليه وسلم : «كم ينحرون كلَّ يومٍ؟» قالا: يوماً تسعاً، ويوماً عشراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القوم ما بين التِّسعمئة والألف» ثمَّ قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟» فذكرا عتبة، وشيبة ابني ربيعة، وأبا جهل، وأميَّة بن خلفٍ، في آخرين من صناديد قريش، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه قائلاً: «هذه مكَّةُ قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها»(الحميدي، 1997، (4/110)
كان من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، حرصه على معرفة جيش العدوِّ، والوقوف على أهدافه، ومقاصده؛ لأنَّ ذلك يعينه على رسم الخطط الحربيَّة المناسبة لمجابهته، وصدِّ عدوانه، فقد كانت أساليبه في غزوة بدرٍ في جمع المعلومات؛ تارةً بنفسه، وأخرى بغيره، وكان صلى الله عليه وسلم يطبِّق مبدأ الكتمان في حروبه، فقد أرشد القرآن الكريم المسلمين إلى أهمية هذا المبدأ. قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ وقد تحلَّى رسول صلى الله عليه وسلم بصفة الكتمان في غزواته عامَّةً، فعن كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: «ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدُ غزوةً إلا ورَّى بغيرها» ، وفي غزوة بدرٍ ظهر هذا الخلق الكريم في الآتي:
1 - سؤاله صلى الله عليه وسلم الشَّيخ الَّذي لقيه في بدرٍ عن محمَّدٍ وجيشه، وعن قريش وجيشها.
2 - تورية الرَّسول صلى الله عليه وسلم في إجابته على سؤال الشَّيخ: ممَّن أنتما؟ بقوله (ﷺ): «نحن من ماءٍ»، وهو جواب يقتضيه المقام، فقد أراد به الرَّسولُ (ﷺ) كتمانَ أخبار جيش المسلمين عن قريشٍ.
3 - وفي انصرافه فور استجوابه كتمانٌ - أيضاً - وهو دليلٌ على ما يتمتَّع به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحكمة’ فلو أنَّه أجاب هذا الشَّيخ ثمَّ وقف عنده، لكان هذا سبباً في طلب الشَّيخ بيان المقصود من قوله (ﷺ): «من ماءٍ».(الحميدي، 1997، (4/110)
4 - أمره صلى الله عليه وسلم بقطع الأجراس من الإبل يوم بدرٍ، فعن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدرٍ.
5 - كتمانه صلى الله عليه وسلم خبر الجهة الَّتي يقصدها عندما أراد الخروج إلى بدر، حيث قال صلى الله عليه وسلم): «إنَّ لنا طَلبةً؛ فمن كان ظَهْرُهُ حاضراً؛ فيركبْ معنا».
قال الإمامُ النَّوويُّ: «في هذا: استحباب التَّورية في الحرب، وألاَّ يُبين الإمام جهة إغارته، وإغارة سراياه؛ لئلا يشيع ذلك؛ فيحذرهم العدوُّ».(الغضبان، 1998، 3/21)
ونلحظ: أنَّ التَّربية الأمنيَّة في المنهاج النَّبويِّ مستمرةٌ منذ الفترة السِّرِّيَّة والجهريَّة بمكَّة، ولم تنقطع مع بناء الدَّولة، وأصبحت تنمو مع تطوِّرها، وخصوصاً في غزوات الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، 1425ه/2004م، صص 634-636.
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد حقَّقه: شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر، الطَّبعة الأولى، دار الرسالة، 1399هـ 1997م.
منير الغضبان، التَّربية القياديَّة دار الوفاء - المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1998 م.
عبد العزيز الحميديُّ، التَّاريخ الإسلاميُّ - مواقف وعبرٌ، دار الدَّعوة - الإسكندريَّة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1997 م.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس