د. أحمد موفق زيدان - خاص ترك برس

آخر انسحاب للاحتلالات الأجنبية كان في فبراير/ شباط من عام 1989 يوم أعلن المحتل السوفياتي الانسحاب الكامل من أفغانستان فكان انسحابا وهزيمة حقيقية ولعل هذا التاريخ سيؤشّر لاحقًا لنهاية كاملة لحقبة الاحتلالات التي بدأت مطلع ووسط القرن الماضي بغض النظر عن الجدال في أن الانسحاب كان عسكريًا فقط بينما ظل عملاؤه، ولكن ما شهدناه ونشهده في السنوات الأخيرة من انسحابات لقوى الاحتلال إنما هي إعادة انتشار لهذه القوات، بما يوفر عليها كُلفة مادية وأخلاقية ومعنوية كبيرة بانسحاب شكلي مع تواجد فعلي وحقيقي عسكري لحماية أذنابه، ومرونة بالعودة متى شاء، برز ذلك في الانسحاب الأمريكي المزعوم من  العراق ثم في أفغانستان والآن الانسحاب الشكلي الصوري للروس من الشام...

الأسوأ من ذلك كله أن التعاطي الإيجابي لقوى المعارضة وللدول المجاورة التي عارضت هذا الاحتلال والتي لم تجرؤ على وصفه بالاحتلال شرعنه وجعله حقًا لروسيا بالبقاء وبالعودة متى تشاء للأسف، وحرم المعارضة من أي رد عسكري بينما العصابة الطائفية التي غدت معترف بها دوليًا تخرق الهدن متى تشاء بألف ذريعة وذريعة، وتظل القوى الدولية المسماة بالصديقة للثورة السورية تحت الضغط في أنها تورد السلاح والمال ووو مما يجعلها تحت الضغط القانوني كما حصل باتهامات روسيا أخيرًا لتركيا...

المكر والكيد العالميين لم ولن يتوقف على عالم الإسلام "بل مكر الليل والنهار"، ولذا كان الإصرار الطالباني منذ اليوم الأول وحتى الآن على التشكيك بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان والمطالبة برحيل آخر جندي أمريكي من  بلادهم،  والحرص على التعاطي مع الرأس وهو الاحتلال وليس مع ذيله الذي هو الحكومة الأفغانية، الأمر الذي يضغط على الاحتلال الأجنبي أخلاقيًا ومعنويًا، ولذا فقد كانت نقطة الخلاف الرئيسة بين النظام السوري أيام حافظ الأسد والإخوان المسلمين خلال عملية المفاوضات في الثمانينيات هو رفض الإخوان القبول بمسؤوليتهم الأخلاقية والقانونية عن مجازر حماة 1982، وتحميلها للعصابة الطائفية، فالنظام يريد أن يتخفف من  هذه المجزرة التي ستطارده  وتلاحقه هو وطائفته إلى عقود وربما قرون...

ولذا فعلى المعارضة السورية أن تكون أمينة وحذرة من كل تصريحاتها إزاء الاحتلال الروسي، فالترحيب بالانسحاب، وعدم التشكيك به وذهاب البعض إلى حدّ مطالبة البعض بممارسة الضغط الروسي على العصابة الطائفية الحاكمة في الشام، إنما يعكس سذاجة سياسية غير مسبوقة في تاريخ التفاوض وفي تاريخ التعاطي مع الاحتلالات ومنها الروسي الذي دمر وقتل وفتك بالشام على مدى ستة أشهر بشكل مباشر وعلى مدى سنوات وعقود بدعم العصابة الطائفية وتأسيس لرأس الإجرام وهي المخابرات الجوية الابن الشرعي للمخابرات الروسية بشكل غير مباشر...

على المعارضة أن تتعاطي مع الروس على أنهم كانوا ولا يزالون وسيظلون قوة احتلال حقيقية للشام، وهذا لن يغسله إلا الانسحاب الشامل والكامل من الشام وبمراقبة دولية معتبرة، والاعتذار عن كل ما اقترفوه من جرائم، مع احتفاظ الشعب السوري بحق مقاضاته مستقبلًا، وقد يقول قائل ماذا يفيد ذلك ونحن ضعفاء وموازين القوى الدولية ضدنا، فأقول له هذا الحق يجب ألا نصادره من الأجيال الشامية المقبلة، التي ستقوم يوماً ما لو عجزنا عن انتزاعه من روسيا وورثتها اليوم ، ستقوم بانتزاعه بإذن الله ولو بعد عقود، وهو ما فعلته وتفعله دول مستقلة اليوم عن فرنسا وإيطاليا وغيرهما...

الانسحاب الأمريكي في العراق اكتسب صدقية وشرعية دولية نوعاً ما بعد إعلانه عن انسحاب جزء من قواته، يوم وافقت القوى السياسية العراقية على ذلك وإن كانت القوى الطائفية صاحبة العملية السياسية قولا وفعلا تقاطعت مصالحها مع الانسحاب والبقاء والعودة أيضا، بينما الانسحاب من أفغانستان اكتسب إلى حد ما صدقية وشرعية دولية لكن رفض حركة طالبان له نغّص عليه الأمر حين طالبته بالانسحاب الكامل ولا تزال، ولذلك على المعارضة السورية ألا تستعجل الترحيب والتشجيع، بل وحتى مطالبتهم بالضغط الروسي على النظام السوري وكأنهم جعلوا من الروس فرسان سلام واستقرار وأمن، بعد أن كانوا ولا يزالون يدكون المدن السورية بقنابلهم وحممهم...

العصابة الطائفية اليوم مدعومة وبقوة من الاحتلال الروسي تماماً كما حصل مع العصابة الطائفية العراقية المدعومة من الاحتلال الأميركي، أما على الأرض فشرعنة وجود المليشيات الطائفية من لبنانية وعراقية وأفغانية، وخرائط تغيير الجغرافيا إن كان من قبل غلاة الأكراد أو من قبل المليشيات الطائفية اللبنانية كما نسمع عن الزبداني ومضايا فمتواصلة، بينما المفاوض الثوري السوري؟! مشغول بكيل المديح للاحتلال الروسي للأسف...

أخيرًا لنتعظ من عملية أوسلو السياسية المتواصلة منذ حوالي عقدين دون أن تسفر عن شيء سوى شرعنة الاحتلال الصهيوني وتخفف الكثير من الدول من  إرث الصمود والتصدي والمقاطعة ونحوها من الشعارات المزيفة،  إلى إقامة علاقات علنية  معه بحجة أن عملية التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين انطلقت ولم يعد لنا حجة ألا نلحق بها، بينما هي عملية شكلية كما يعرف الجميع، وغداً قد تتعذر دول بإعادة العلاقات مع العصابة الطائفية في الشام بحجة أن المعارضة تتفاوض مع النظام...

إياكم أن تسرقوا حُلمنا، فالفلسطينيون اليوم لا يُحمّلون إسرائيل وحدها مسؤولية سرقة حلمهم وإنما يحملونه لمفاوضهم… لا تكرروا درسًا حاضرًا عايشناه وليس درساً تاريخيًا نُقل إلينا...

عن الكاتب

د. أحمد موفق زيدان

كاتب وصحفي سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس