سعيد الحاج - عربي 21

كما كان متوقعا، يبدو أن مسيرة القطيعة الدبلماسية بين تركيا والكيان الصهيوني التي امتدت على مدى ست سنوات كاملة منذ الاعتداء على سفينة "مافي مرمرة" قد وصلت إلى محطتها الأخيرة في الجولة الأخيرة من المفاوضات الثنائية بينهما يوم أمس الأحد.

ويبدو أن الأوساط السياسية والإعلامية التركية ليست في عجلة من أمرها للتعقيب حول الأمر فيما طارت به وسائل إعلام الاحتلال، ولذلك علاقة مباشرة في ما أظن برفض قطاعات تركية واسعة لهذا التقارب، أولاً بسبب المناكفات الحزبية، وثانياً بسبب كره الاحتلال وخاصة بعد قتله النشطاء العشرة، وثالثا بسبب السقف العالي الذي بنته القيادات التركية في غمرة الشعارات الخطابية والحملات الانتخابية والتسويق الداخلي والخارجي.

ولذا فقد أعلنت رئاسة الحكومة التركية عن عزم رئيسها بن علي يلدرم تنظيم مؤتمر صحافي يتحدث فيه عن "المرحلة التي وصلت إليها المفاوضات مع "إسرائيل"، ظهر اليوم الاثنين أي بعد كتابة هذه السطور، وقد لا يتحدث فيه عن "اتفاق قد أنجز" بل عن "تقدم" في المفاوضات.

أقول "كما كان متوقعا" وأستبعد أي مفاجأة أو صدمة في الأمر، لأن الطرفين يسعيان للأمر منذ فترة ليست بالقليلة ولا مانع مبدئياً لأي منهما بل كان الأمر مرهوناً دائماً - ومنذ الشهور الأولى للقطيعة - بالتفاوض حول الشروط والتفاصيل. فتركيا تريد التقارب مع تل أبيب لعدة أسباب في مقدمتها عزلتها في الإقليم وتبدل أوضاع المنطقة وإخفاقها في الملف السوري والأزمة مع روسيا والتهديد الكردي في الداخل والخارج. وأما الكيان ففي حاجة ماسة لحلفاء في المنطقة وتعاون استخباراتي مع تركيا افتقده منذ سنوات في ظل حالة السيولة التي تشهدها المنطقة بشكل عام.

كانت تركيا قد اشترطت ثلاثة شروط لعودة العلاقات الدبلماسية مع تل أبيب (العلاقات التجارية استمرت ونمت) هي الاعتذار والتعويضات ورفع الحصار عن قطاع غزة، باعتبار أن الشهداء الأتراك ارتقوا على ظهر سفينة كانت تسعى لرفعه. تمسكت أنقرة بشروطها وتصلبت حولها ثلاثة أعوام، لكن عام 2013 - عام التراجع في المنطقة - حمل متغيراً في الموقف التركي. قبل اردوغان اعتذار نتنياهو على الهاتف بعد أن كان اشترط أن يكون مكتوباً وعلنياً، ثم قبلت تركيا أن تتحول صيغة "التعويضات" بكل ما تحمله من مسؤولية سياسية وجنائية وقانونية للاحتلال إلى صيغة "صندوق" يوزع المال على عوائل الشهداء، وفي مقابل إلغاء كل الدعاوى المرفوعة في تركيا ضد مسؤولين صهاينة!!

هذه "التنازلات" في الشرطين المتعلقين بالمصالح التركية والعلاقات المباشرة مع الاحتلال كانت كافية لتوقع تراجعات مشابهة في الشرط الثالث الذي يتعلق نظرياً بطرفا ثالث في المعادلة، بمعنى الوصول لحل وسط بين "كسر" الحصار الكامل الذي لن تقبله دولة الاحتلال و"التخلي" الكامل عن هذا الشرط الذي لا تستطيعه تركيا.

كثيرة هي البنود التي تم تداولها في وسائل الإعلام، ويصعب تقييمها قبل الإعلان الرسمي عنها، لكنها لن تبتعد كثيراً عما نشر (هو أقرب إلى المسودة التي تم التفاوض حولها في الجولة الأخيرة) ولن تخرج عن سياق تطبيع العلاقات وإعادة السفراء والتعاون في المنظمات الدولية وفي المجال الاستخباراتي.

هذا في ما يتعلق بالعلاقات الثنائية المباشرة، أما على الصعيد الفلسطيني فأفترض أن الكيان حصل على ما يريده من "منع التخطيط لعمليات عسكرية ضده انطلاقاً من الأراضي التركية" (وهو تحصيل حاصل) في مقابل تسهيلات تعطى لأنقرة للمساهمة في "إجراءات تخفيف الحصار" مثل إعطائها وضعاً خاصاً في ملفات الكهرباء والماء والطاقة وإعادة الإعمار ..الخ.

يتحدث البعض عن "إيجابيات" الاتفاق من زاوية القضية الفلسطينية، وهي موجودة بالفعل كما هي سمة أي موقف أو قرار سياسي، ويمكن أن تشمل إجراءات تخفيف الحصار إضافة إلى إمكانية لعب تركيا دوراً ضاغطاً على الاحتلال أو ضابطاً لمواقفه لاحقاً. لكن هذه "الإيجابيات" المفترضة تكاد تكون لا شيء أمام الخسائر الاستراتيجية لتقارب دولة مسلمة بحجم تركيا مع دولة الاحتلال وعودة التنسيق الاستخباري والعسكري بينهما إضافة إلى كسر الحاجز النفسي الذي بني على صعيد الشعب التركي على مدى سنوات، و"تعاون" الطرفين في المؤسسات الدولية وهو الذي بدأ قبل إبرام الاتفاق حين رفعت تركيا "الفيتو" على مشاركة الكيان في مناورات حلف شمال الأطلسي وشاركت في ترشيح لجنة غرب أوروبا لمرشحه لرئاسة اللجنة القانونية في الأمم المتحدة، وهو ما كان لاحقا.!!

الملحوظة الجوهرية الثانية فيما يتعلق بالإجراءات "الإيجابية" على مستوى حصار قطاع غزة هو أنها أدنى كثيراً من سقف "كسر" الحصار أو حتى تخفيفه، إذ هي تتعلق حصراً بموضوع "حظر البضائع" دخولاً وخروجاً وليس "حصار" الناس وحرية حركتهم، مع إدراكي أن جزءاً مهماً من الحصار مرتبط بالجانب المصري بطبيعة الحال.

النقطة الثالثة المهمة في هذا الإطار هو أن هذه الإجراءات مؤقتة ويمكن للاحتلال بكل سهولة أن ينقلب عليها أو يجمدها أو يتلاعب بها بأوهى ذريعة أو حتى بدون ذريعة كما عودنا دائماً، وحينها لا يمكن تصور أن تقطع تركيا علاقاتها معه مرة أخرى لأنه أخل بأحد شروط الاتفاق، سيكون الحصار حينها قد عاد لسيرته الأولى بينهما العلاقات الدبلماسية مستمرة بين الجانبين.

إذن، من الناحية الاستراتيجية ومن زاوية عملية فلا يمكن توقع الخير من هذا الاتفاق المفترض، لا لتركيا ولا للقضية الفلسطينية، فالعلاقة مع دولة الاحتلال شر محض، فضلاً عن كون الاتفاق المفترض نكوصاً في منحنى العلاقات بين الطرفين هذه المرة صعوداً، وبالتالي فلا قيمة كبيرة لأي فوائد هامشية ضيقة ومؤقتة - حقيقية أو متوهمة - قد تحصل.

أخيرا، كل ذلك لا يعني أن تركيا مقبلة على التنكر لماضيها وسنوات طويلة بنت من خلالها سياستها الخارجية تجاه القضية الفلسطينية، ولا يعني أنها ستنقلب 180 درجة فيما يتعلق بالفلسطينيين وحركة حماس تحديدا. لكنه أيضاً يعني أن بوصلة السياسة الخارجية التركية تسير باتجاه مختلف هذه المرة - كما كتبنا وحذرنا مراراً - وهو ما يضع الجميع أمام مسؤولياته لضبطها دون الدوران الكامل مستقبلاً فضلاً عن محاولات إعادتها سيرتها الأولى.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس