برهان الدين دوران - صحيفة ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس

التغيير ضروري قطعا، لكن الضرورة لا تجعل فهم التغيير أسهل. خبر الأفراد والمجتمعات، مثل كثير من صانعي السياسة الخارجية كثيرا من الآلام لتحديد طبيعة التغيير واتجاهه بشكل صحيح،كما خبروا التكيف مع الظروف المتغيرة في الساحة الدولية. وما يزيد من صعوبة مهمتهم ليس الحاجة  إلى استيعاب التغيير نفسه فحسب، بل تحديد الاتجاهات أيضا، وفهم ما يفكر فيه لاعبون آخرون.

ولكي نكون منصفين، فإن المهمة أكثر تحديا حتى بالنسبة للأشخاص والمنظمات التي يجب أن تكون على صلة بالحكومة وتفهم التغييرات السياسية بعد مشاهدة العرض من مقاعد البدلاء لفترة طويلة جدا، مثل أحزاب المعارضة في تركيا. في السنوات الأخيرة وجهت أحزاب المعارضة انتقاداتها للأيديولوجية الملموسة للحكومة ونواياها بدلا من انتقاد أداء الحكومة.

وبتوجيه اللوم مرارا إلى مشاكل السياسة الخارجية التركية على ما وصفوه بحكومة الإسلاميين والأيديولوجية الطائفية، اكتشف زعماء المعارضة أنهم استطاعوا أن يفسروا أي شئ حدث في تركيا أو حولها بإلقاء اللوم على الرئيس رجب طيب أردوغان.

على مدى العقد الماضي تجاهلت أحزاب المعارضة التركية بمهارة أن البلاد تحتاج إلى جيران مستقرين، إلى " صفر مشاكل"  مع الجيران من أجل العمل. في الوقت الذي أحدث فيه الربيع الرعبي صدمة في الشرق الأوسط، ألقت أحزاب المعارضة باللوم على الحكومة بسبب المشاكل مع الغرب بدلا من الاعتراف بحقيقة أن المنطقة يعاد تشكيلها، وان التحالفات القديمة قد اجتثت. أما تجاهل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي للتهديد الذي يمثله حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي للأمن القومي التركي، واستعداد واشنطون لبناء جسور مع إيران وسط احتجاجات من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، فهي حقيقة ترد على الذهن فورا.

وبالأخذ في الحسبان أن تحول سوريا والعراق إلى دولتين فاشلتين كبيرتين مصدرتين للاجئين والإرهاب في العالم، فإن تركيا تحتاج إلى مشاريع سياسية أكثر عقلانية وأقل شحنا أيديولوجيا عبر توجيه اللوم والاتهامات. ما تفعله أي دولة اليوم أو ما لا تفعله يمكن أن يعرض مصالحها للخطر. بالنسبة لتركيا فإن مخاطر محددة تشمل مكافحة داعش، والفشل في القضاء على حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا.

على أثر التقارب بين تركيا وإسرائيل وروسيا بدأت المعارضة تتحدث عن ضرورة العودة إلى السياسة الخارجية الكمالية، وهو ما يعني فعليا ثلاثة أشياء: التأكيد على السلام والعلمانية والانعزال.

في الأيام الأخيرة روج زعماء المعارضة مرارا وتكرارا لأن تركيا يجب أن تضع أولوية السلام فوق كل اعتبار. ولدعم حجتهم فإنهم غالبا ما يلجؤون إلى المقولة الكمالية المأثورة " السلام في الوطن والسلام في العالم" . لكن ما تجاهلوه بمهارة هو أن هذا المبدأ الأساسي لا يختلف جوهريا عن " صفر مشاكل مع الجيران" أو " زيادة عدد أصدقائنا وتقليل أعدائنا" . وفي نهاية المطاف فإن قدرة تركيا على إنجاز هذه المهمة يعتمد على لاعبين آخرين.

ثانيا، يزعمون أن العلمانية يجب أن تلعب دورا أبرز في السياسة الخارجية التركية. والمشكلة أن  حكومة حزب العدالة والتنمية كانت مهتمة في المقام الأول بتعزيز التعاون الاقتصادي مع البلدان الأخرى، إلى جانب أن تأثير الإسلام على السياسة الخارجية لم يطغ أبدا على العقلانية الصارمة للمصالح القومية. نفذت تركيا التزاما أوسع نطاقا للشرعية الديمقراطية عندما دعمت الإخوان المسلمين، وأوصت الرئيس المصري المعزول محمد مرسي علانية بالعلمانية، وفي الفترة الأخيرة صافح قادة أتراك إسرائيل.

وأخيرا يقول أنصار العودة إلى السياسة الخارجية الكمالية إن تركيا لا ينبغي أن تسعى إلى تحقيق أجندتها الخاصة على الساحة الدولية، وهو الأمر الذي يتطلب طرح بعض الأسئلة: ماذا يعني حقا إعادة تبني السياسة الخارجية الكمالية في الشرق الأوسط المعاصر؟ هل الالتزام بموقف سلبي مما يحدث في العالم يحمي تركيا من التهديدات القاتلة مثل تهديدات داعش وحزب العمال الكردستاني؟ ما الذي يمكن أن نحققه من خلال التنسيق مع الولايات المتحدة التي أبلغت القوى الإقليمية بأن تحل نزاعاتها بالعنف؟ هل يمكن أن يتخلى حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي وميليشيات وحدات حماية الشعب في شمال سوريا عن العنف إذا صافحت تركيا بشار الأسد وإيران وروسيا لتحتوي الانعزال؟ الجواب البسيط لا.

تحب أحزاب المعارضة التركية أن تستغرق في ذكرياتها عن الأيام الخوالي، لكنها تتجاهل بمهارة حقائق اليوم الباردة الصعبة. لا تأخذ أحزاب المعارضة في الحسبان أوجه الشبه بين السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية وتقاليد السياسة الخارجية التركية، بل إن هذه الأحزاب تقف عاجزة عن الإجابة على الأسئلة حول فوائد إعادة تبني الانعزالية. 

عن الكاتب

برهان الدين دوران

مدير مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية "سيتا" في أنقرة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس