شوركو كوتشوك شاهين - المونيتور - ترجمة وتحرير ترك برس

من الصعوبة بمكان أن يتوقع المرء أن يجد في رابية نائية قاحلة جرداء متحفا مزدهرا تزداد شهرته العالمية يوما بعد يوم. بالنسبة لمتحف باكسي في شرق تركيا فإن وقوعه بعيدا عن العمران أمر ملازم لوجوده، ويعبر عن المهام التي يطلع بها. فكرة المتحف جاءت من بنات أفكار الفنان التركي الشهير حسام الدين كوتشان مساهمة منه لأبناء قريته. هذه الفكرة التي نُظر إليها في البداية على أنها فكرة مجنونة قبل ثلاثة عقود، تطورت لتصير مركزا ثقافيا نشطا ومشروعا اجتماعيا يضخ الحياة في واحدة من أفقر المحافظات التركية.

أطلق على المتحف اسم باكسي وهو الاسم القديم لقرية بايراقدار في محافظة بايبورت التي تقع في أعلى سهوب الأناضول بالقرب من الساحل الشرقي للبحر الأسود، على مسافة 1400 كم من إسطنبول، و900 كم من أنقرة.

افتتح متحف باكسي في عام 2010 ثمرة لعمل مضن دام عقدا من الزمن قام به الفنان كوتشان وزوجته أويا وبدعم من محبي الفنون، وبتكلفة بلغت قرابة 10 مليون دولار. ومنذ ذلك الحين استمر توسع المتحف مع تقديم مساهمات جديدة.

ولدت فكرة المتحف لدى الفنان كوتشان في يوم من أيام شتاء عام 1987 عندما سافر إلى قريته لحضور جنازة والده. ومما زاد من حزنه أنه اكتشف أن الإيوان الذي يجتمع فيه سكان القرية للتسامر ومناقشة الأمور السياسية وسرد القصص القديمة وقراءة الشعر الشعبي والغناء قد أُغلق. قال الفنان كوتشان للمونيتور "انطوى الناس على أنفسهم في بيوتهم، وضعفت الروابط والصلات فيما بينهم. كان الإيوان في السابق مركزا ثقافيا، لذلك قررنا أن نعيد بناءه من جديد".

تتابعت بعد ذلك موجات من الأفكار. أرادت عائلة كوتشان أيضا إضافة مكتبة ومشغل للمساعدة في إنقاذ الحرف اليدوية التقليدية في المنطقة. كانت الفكرة الأولية إنشاء شئ من قبيل "مركز بحثي للحرف اليدوية والتطبيق"، لكن سرعان ما تطورت هذه الفكرة إلى إنشاء المتحف.

بدأ البناء في عام 2000 واستمر عقدا من العمل الشاق، فقد كان من الصعب الوصول إلى المنطقة، وكان نقل مواد البناء والعثور على عمال بناء يمثل تحديا. انتهى بناء المبنى الرئيس في عام 2010، وبعد ذلك بعامين أضيفت صالة مؤتمرات وورشة عمل.

متحف باكسي اليوم عبارة عن مركز ثقافي كبير يغطي مساحة تصل إلى حوالي 30 هكتارا (30 ألف متر) ويضم قاعة عرض تقام فيها عروض موسمية ودائمة، ومشاغل للفن الحديث والحرف اليدوية التقليدية مثل النسيج والفخار والصباغة الطبيعية، ويضم أيضا قاعة للمؤتمرات ودار ضيافة. ويجري العمل على بناء مسرح مدرج  بخمسمائة مقعد.

وسرعان ما جذب المتحف بعد افتتاحه الاهتمام الدولي. ويقول الفنان كوتشان إن ذلك الاهتمام يرجع إلى أن باكسي يجمع بين المتحف والحياة. في عام 2014 حصل المتحف على جائزة المجلس الأوروبي لجهوده "في تجسير الهوة بين المركز والمناطق النائية، ومساعدة السكان المحليين على البقاء اقتصاديا وثقافيا والحفاظ على ذاكرتهم الثقافية بإحياء الصناعات التقليدية من الغزل والنسيج". ويعتز الفنان كوتشان بهذا الاعتراف من قبل المجلس الأوروبي، إلى جانب الكلمة التي ألقتها مقرر الجائزة، أنا براسور رئيس الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي، التي جاء فيها "إن هذا المتحف والقائمين عليه والأنشطة المرتبطة به تقدم نموذجا عظيم الإلهام لكيفية توافق مبادئ مجلس أوروبا مع قيم التراث الثقافي للمجتمع".

وقال الفنان كوتشان مشددا على الاهتمام الكبير من المتحف بالمنتجات الاقتصادية والثقافية لمختلف الطبقات "إن جهود الفنان لإلغاء الحدود الثقافية والاقتصادية تتضح في أشكال مختلفة. الشروع في رحلة والسير نحو المجهول هو المهم بالنسبة للفنان. يمكن وصف متحف باكسي بأنه نتاج لهذا التحفيز الفني".

فاز المتحف حتى الآن بقرابة 30 جائزة، منها جوائز من البرلمان التركي. وعلى الرغم من صعوبة الوصول إليه، وإغلاقه خلال فصل الشتاء الطويل في المنطقة، فإن شعبيته تتزايد باطراد، حيث بلغ عدد الزائرين 15 ألف زائر في العام. خلال جولة له في المتحف عام 2011، قال السفير الأمريكي آنذاك فرانسيس ريكاردوني "يا له من مكان عظيم! إنه كما قيل لنا بالضبط. المرء يشعر هنا حقا بالسلام والهدوء".

كيف كان رد فعل أهل القرية على إقامة نصب ثقافي بجوار قريتهم؟ يجيب الفنان كوتشان: لم يكن القرويون متحمسين في البداية. كانوا السكان المحليون يقولون في البداية لماذا كل هذا. أما اليوم فإنهم يفخرون بالمتحف، ويتصرفون وكأنهم مبعوثون لجلب الزوار إليه.

يعترف كوتشان بأن كثيرين نظروا إلى المشروع على أنه "جنون" نظرا لموقعه، ويقول "مكان المتحف في وسط الأناضول، في مكان مرتفع في السهوب، وتضرر من هجرة أبناء القرية للخارج والاغتراب الثقافي. أطلق بعضهم على هذا المشروع جنون وحماقة. لا أدري ما إذا كانوا على حق، لكن المتحف أقيم بالحب والحماس. والحب من بين معانيه الجنون، لكن الغنى شئ آخر هو الشغف المشترك. الناس يأتون الآن بأفكار جديدة ومساهمات. بالتأكيد ليس المشروع نتاج العقل والسلوك الرشيد. العقلاء من الناس ينظرون إلى المشروع على أنه غير عقلاني، ويتساءلون من ذا الذي يأتي إلى هنا لزيارة المكان.

حُلم كوتشان للعقد القادم هو إضفاء مزيد من الطابع المؤسسي على متحف باكسي، ووضع علامات تجارية للمنتجات الإبداعية، وجذب الحشود للزيارة. قوائم الانتظار التي تظهر في أيام العطلات تمنح الفنان كوتشان الأمل في أن هذا الحلم سيتحقق، وذلك بفضل دعم كبار الفنانين الأتراك الذين تبرعوا بقطع من أعمالهم الفنية لمجموعات المتحف. استضاف متحف باكسي عبر تاريخه القصير تجمع المجلس الدولي للمتاحف، ومجموعة من الفعاليات الأخرى من حفلات موسيقية لمشاهير الموسيقيين الأتراك.

بالنسبة لأويا كوتشان رئيسة مجلس إدارة المؤسسة النسائية للثقافة والفنون فإن النساء والأطفال هم الفئة المستهدفة ذات الأولوية. وقالت أويا للمونيتور "من خلال ورش العمل لدينا نُشرك المرأة في عمليات الإنتاج. والمنتجات التي يصنعنها تُعرض للبيع في المتحف".

وتضيف "المشروع القادم سيكون إنشاء مركز للنساء غير العاملات لاستخدام المهارات التقليدية في صنع منتجات مثل الحلي والحقائب ومنتجات التطريز". وتضيف كذلك: "هناك عدد من النساء العاطلات عن العمل في مدينة بايبورت اللائي كن يعملن في الزراعة ثم علقن في البيت بعد الهجرة إلى المدينة".

بالنسبة لأطفال المنطقة نظمت المؤسسة مسابقات للرسم خلال السنوات الأربع الماضية جمعت آلاف المشاركين من القرى المحيطة، واختارت 30 طالبا لحضور ورشة عمل لمدة أسبوع في المتحف. في الوقت نفسه أطلقت كلية روبرت العريقة في إسطنبول مشروع المسؤولية الاجتماعية. وفي إطار المشروع يأتي طلاب الكلية إلى متحف باكسي في ورش عمل للعمل مع نظرائهم المحليين في مجالات متنوعة مثل العزف على الجيتار والتمثيل والرياضة، وكل ما يرغب أطفال مدينة بايبورت في عمله.

بإمكان الفنانين أن يغيروا العالم، ومتحف باكسي هو مثال رائع على ذلك. قد يكون من الممكن اليوم النظر إلى زوار هذا المكان "المجنون" على أنهم مسافرون "مجانين" لكن بالنظر إلى وتيرة العمل السريعة في المتحف، فإن هذه النظرة لن تدوم طويلا.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!