محمود عثمان - خاص ترك برس

تشهد العلاقات بين تركيا ودول الاتحاد الأوربي توتراً حاداً غير مسبوق, وذلك على خلفية قيام السلطات التركية باعتقال تسعة من نواب حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) . وبينما يصر الطرف الأوربي على إغلاق مسامعه وصم آذانه عما تقوله تركيا, تعلو وتيرة التصريحات النارية, والبيانات والتهديدات إلى حد يشعر المرء معه بأن الطلاق البائن بين الطرفين قاب قوسين أو أدنى .

ليس من نافلة القول: "إن تركيا لا تخشى التهديدات الأوربية, بل لا تقيم لها كبير وزن, لأن الأوربيين تركوا الميدان للأمريكان, واستنكفوا عن تأدية أي دور فعال خارج أراضيهم, مكتفين بالاقتداء بالأمريكان والسير خلفهم خطوة بخطوة. وقد لاحظنا مؤخراً استبعاد الأمريكان للأوربيين في القضية السورية أشد ملفات الصراع حساسية وتعقيدا, واستفردوا بإدارتها مع الروس, في سابقة ربما تكون الأولى التي يتم فيها إقصاء الأوربيين عن مسرح الأحداث الدولية. لكن الأهم من ذلك كله من وجهة نظر الأتراك, أن الأوربيين لم يفوا بأي من وعودهم تجاه تركيا, لا في ملف انضمامها للاتحاد الأوربي, ولا حتى في الاتفاق بشأن اللاجئين وتقديم الدعم المالي لهم, حيث لم يلتزم الأوربيون إلا بجزء يسير من تعهداتهم, وبالتالي ليس لدى الأتراك ما يخسرونه إذا ذهبت الأمور إلى الاحتمالات الأسوأ, فلطالما ردد القادة الأتراك بأن حاجة أوربا لتركيا أكبر من حاجة تركيا لأوربا.

لماذا اعتُقِل نواب حزب الشعوب الديمقراطي ؟

من لدن انتخابات 2002, وبعد فوز حزب العدالة والتنمية, وحزب الشعب الجمهوري يشهر سلاح رفع الحصانة عن نواب البرلمان, متهما نواب حزب العدالة والتنمية بالهروب من القانون والعدالة, بالاحتماء وراء درع الحصانة التي يؤمنها القانون لنواب البرلمان. كما هو معلوم فإن الهدف من تأمين الحصانة لنواب البرلمان, أن يكونوا أصحاب حرية مطلقة لا يخشون شيئا عند القيام بواجبهم في تمثيل الشعب الذي انتخبهم وأرسلهم للدفاع عن حقوقه. وهذه الحصانة سارية فقط في الفترة التي يكون فيها الشخص نائبا في البرلمان, فإذا انتهت مدة نيابته انتهت معها حصانته.

أراد حزب العدالة والتنمية أن يسحب هذه الذريعة من حزب الشعب الجمهوري, فأقر البرلمان التركي في دورته السابقة رفع الحصانة عن 154 نائبا من مختلف الأحزاب السياسية. وكان من بين هؤلاء دولت بهجالي رئيس حزب الحركة القومية, و دنيز بايكال الرئيس السابق لحزب الشعب الجمهوري, وغيرهم من النواب. النواب جميعهم بمن فيهم دولت بهجالي و دنيز بايكال ذهبوا إلى المحكمة وأدلوا بإفاداتهم. إلا نواب حزب الشعوب الديمقراطي, أعلنوا منذ البداية أنهم لن يذهبوا إلى المحكمة, ولن يدلوا بإفاداتهم, وليفعل القضاء ما يريد. طبعا قاضي التحقيق عمل بموجب القانون, فاستدعاهم حسب الأصول, وعندما رفضوا الحضور, طبق القانون وأصدر أمراً بإحضارهم جبراً, و هذا ما تم بالفعل 

لماذا رفض نواب حزب الشعوب الديمقراطي الذهاب إلى المحكمة بأنفسهم ؟

لأنهم قلبوا طاولة المصالحة الوطنية التي كانوا بدؤوها مع الدولة التركية, وقطعت شوطاً كبيراً . وذلك بسبب إغراءات الوضع في سورية, حيث قام الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني "حزب الاتحاد الديمقراطي" بإعلان مناطق حكم ذاتي شمال سورية, ولاقت خطوتهم هذه تشجيعا ومباركة أمريكية أوروبية, مما شجع ودفع الحزب الأم "بي كا كا" إلى القيام بالخطوة نفسها في جنوب شرق تركيا. وقد كشفت التحقيقيات الجارية في المحاولة الانقلابية الفاشلة, أنه لو كتب لانقلاب 15 تموز النجاح, لرأينا مناطق حكم ذاتي داخل الأراضي التركية.

تدرك الدولة التركية أن حزب الشعوب الديمقراطي هو الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني, ولسنوات طويلة غضت الطرف عن الروابط العضوية بينهما, بقصد جر القيادات الكردية إلى ساحة العمل السياسي وترك العمل المسلح, وقد كان ذلك مطلب الأمريكان أيضا, وشرطهم حينما سلموا عبد الله أوجلان إلى تركيا. لكن مع ظهور الفوضى في سورية والعراق, "عادت حليمة لعادتها القديمة" كما يقول المثل الشعبي, فاختارت القيادات الكردية الرجوع إلى العمل المسلح, ساعدهم في ذلك انهيار الدولة السورية, وسهولة التواصل والدعم اللوجيستي القادم عبر الأراضي السورية 

حزب العمال الكردستاني تنكر للعملية السياسية وقلب طاولتها بعد أن كادت أن تؤتي ثمارها. ولا أدل على ذلك من ضلوع غالبية نواب حزب الشعوب الديمقراطي, في عمليات نقل وتهريب الأسلحة لمقاتلي بي كا كا, ونقل جرحاهم في عرباتهم المخصصة لهم من الدولة التركية. بل إن بلديات حزب الشعوب الديمقراطي كانت تتحرك بأوامر مباشرة من قيادات بي كا كا, فتقوم بحفر الخنادق, وعمل السواتر الترابية, وتغطية بعض الأزقة لتغطية حركة مقاتلي الحزب, كي لا تراهم طائرات المراقبة بدو طيار, وغير ذلك من أعمال الدعم اللوجيستي لمقاتلي بي كا كا, بدل القيام بوظيفتها الأصلية والتي تتلخص بتقديم الخدمات للمواطنين.

هناك مناطق في جنوب شرق تركيا ممنوع فيها التجوال منذ أكثر من عام, تدور فيها حرب طاحنة بين قوات الأمن التركية وحزب بي كا كا, تكبد فيها الأخير خسائر فادحة, حيث قتل من جنوده خلال الشهرين الماضيين فقط ما يزيد عن 1500 إرهابيا.

في أسباب القلق الأوروبي الأمريكي: 

ظاهر قلق الأوروبيين وغضبهم هو قيام السلطات التركية باعتقال نواب برلمان منتخبين من قبل الشعب. لكن لا توجد عندهم إجابة عن السؤال التالي: لماذا لم يذهب هؤلاء النواب للإدلاء بإفاداتهم للمحكمة ؟!. في الوقت الذي ذهب فيه بقية زملائهم من بقية الأحزاب ولم يتخلف منهم أحد. هل يسمح الأوربيون أو الأمريكان لأحد عندهم, نائباً كان أم مسؤولا, بعدم تنفيذ أوامر المحكمة والتمرد على القوانين بحجة أنه منتخب من طرف الشعب ؟!.

في اليوم نفسه الذي تمت فيه عملية اعتقال النواب كان هناك تفجير إرهابي في قلب مدينة "ديار بكر" راح ضحيته شرطيان وتسعة مواطنين. تبنته مجموعة تطلق على نفسها "صقور حرية كردستان" أحد أذرع حزب العمال الكردستاني. لم نسمع أحداً من الأوروبيين أو الأمريكان استنكر هذا العمل الإرهابي !.

أول البارحة برأت محكمة بلجيكية عناصر من حزب العمال الكردستاني, ضالعين بأعمال إرهابية، بحجة أنهم كانوا يقومون " بالنضال المسلح " !. على االرغم من اعتماد كافة دول الاتحاد الأوروبي حزب العمال الكردستاني على أنه منظمة إرهابية مسلحة !. ومن باب "الشيء بالشيء يذكر", الأمريكان أيضا يعدّون حزب العمال الكردستاني بي كا كا و فرعه حزب الاتحاد الديمقراطي حزبين إرهابيين, لكنهم يتعاملون معهما كشريك استراتيجي في سورية بحجة الحرب ضد تنظيم داعش !.

يحق للأمريكان والأوروبيين أن يحموا المنظمات الإرهابية " بي كا كا و بي واي دي" ويدعموها علنا جهاراً نهاراً. ولا يحق للسلطات التركية أن تفرض قانونها على الجميع من دون استثناء !.

يحق للأمريكان والأوروبيين أن يغزوا العراق ويدمروه ويدخلوه في حروب داخلية بحجة أن تنظيم القاعدة هاجمهم في 11 أيلول / سبتمبر. ولا يحق لتركيا أن تدافع عن وحدة أراضيها, وأن تحمي مواطنيها من هجمات الإرهاب !.

يحق للأمريكان وللأوروبيين الدعس على القوانين وتخطيها. ولا يحق لتركيا تطبيق قانونها على أراضيها !.

يحق للغرب أن يتنعم بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. لكنها محرمة على بقية نسل آدم !.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس