ترك برس

إن قواعد العمليات المتقدمة لتركيا في شمال العراق وسورية تشكل مظاهر رادعة وملموسة لمخاوف أنقرة الأمنية خارج حدودها المباشرة، وفقًا لتقرير صادر عن "مركز دراسات الاقتصاد والسياسة الخارجية" التركي.

علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن هذه الوحدات لا يمكنها تغيير الموازين العسكرية لوحدها، فبإمكانها العمل كرأس حربة لعملية توغل كبيرة.

ويقول التقرير التركي إنه في ذروة العنف الذي شنه حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) في أوائل التسعينيات، كانت القوات المسلحة التركية ماتزال تتبع بقايا نظام المعارك العقائدي للحرب الباردة. وكان مرتكزا على نظام الشعب، بهيكلية ضخمة مصممة لمواجهة الغزو السوفييتي لدولة كانت تشكل خاصرة حلف شمال الأطلسي، وليس منظما لخوض صراع منخفض الحدة لهزم التهديد الإرهابي العابر للحدود المتمثل بحزب العمال الكردستاني.

في ظل عدم وجود قدرات متقدمة في مجال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع تحت تصرف قوات الأمن التركية، كان مقاتلو حزب العمال الكردستاني متمركزين في مناطق جبلية على الحدود التركية العراقية. وكانوا يعيدون الانتشار عبر المسير تحت جنح الليل الطويل كتمويه طبيعي. اما المواقع التركية فكانت في ذلك الوقت تعتمد عقلية دفاعية.

علاوة على ذلك، بنيت معظم هذه المنشآت العسكرية الصغيرة لمواجهة المهربين، وبالتالي، كانوا كثيرا ما يتعرضون للهجمات المفاجئة من قبل حزب العمال الكردستاني.

وقد استعيض عن الفهم العسكري المذكور أعلاه، سواء فيما يتعلق بتشكيلات الوحدات أم التفكير الاستراتيجي، بنظام معارك عقائدي بمستوى لواء، قابل للحركة ويخدم عملية الانتشار السريع طوال فترة التسعينيات.

وفي هذا الصدد، عزز الجيش التركي قدراته في مجال الطيران العسكري ببرنامج شامل لشراء طائرات الهليكوبتر على نوعيها: الهجومي ومتعدد المهام. كما تمت ترقية هذه المنصات بمعدات الرؤية الليلية. ونتيجة لذلك، اكتسبت وحدات الجيش والدرك خبرات في عمليات الكوماندوس للهجمات الجوية، وأصبحوا قادرين على استدعاء الدعم الجوي القريب في أثناء الاشتباكات.

كما استبدل المخططون العسكريون الأتراك تشكيلا القواعد الدفاعية باستراتيجية "البحث والتدمير الفعال". وبذلك، كانت فكرة السيطرة على المناطق من قبل وحدات النخبة من الكوماندوس أمرا لا غنى عنه. حتى إن كتيبة من اللواء البرمائي التابع للبحرية التركية تم تكليفها بمهام مكافحة الإرهاب في الجزء الجنوبي الشرقي من البلاد.

مع ذلك، وعلى الرغم من التحول العسكري الناجح المذكور آنفا، فإن خصائص حزب العمال الكردستاني العابرة للحدود وملاذه الآمنة في شمال العراق ماتزال تشكل تهديدا لتركيا، خصوصا أن فراغ السلطة في المنطقة بعد حرب الخليج الأولى كان يزيد من البيئة الأمنية غير المستقرة.

وعلى الرغم من إيواء القيادة العليا لحزب العمال الكردستاني في سورية, إضافة إلى وادي البقاع في لبنان, منذ أوائل الثمانينات كجزء من الحرب التي كان يشنها نظام حافظ الأسد بالوكالة ضد أنقرة، فإن الأراضي العراقية كانت أكثر ملاءمة للمنظمة الإرهابية.

أولا، لم تكن الحدود التركية-السورية، ذات الطبيعة المنخفضة بشكل عام، تمنح الحزب أي أفضليات من حيث التضاريس. ثانيا، وفي ذلك الوقت، لم تكن تركيا طرفا في اتفاقية "أوتاوا  Ottawa Convention"، وكانت المناطق الحدودية مع سورية في أغلبها مزروعة بالألغام. ونتيجة لذلك، فضل حزب العمال الكردستاني استخدام الأراضي العراقية كنقطة انطلاق لشن هجماته.

وردا على إرهاب حزب العمال الكردستاني العابر للحدود، اضطرت أنقرة إلى تغيير نهجها الجيوسياسي في الصراع. وبالتالي، قررت النخبة العسكرية السياسية التركية في ذلك الوقت توسيع عمليات مكافحة الإرهاب لتصل إلى شمال العراق.

وفي سنة 1992، شن الجيش التركي أول توغل كبير له، حيث شارك نحو 15 ألف جندي من القوات الجوية والجيش والدرك في العملية المشتركة التي مثلت ثاني أكبر مهمة عسكرية لتركيا خارج البلاد بعد التدخل العسكري في قبرص سنة 1974.

وكانت عملية سنة 1992 مباغتة لحزب العمال الكردستاني وأوقعت خسائر فادحة في المنظمة الإرهابية. وفي سنة 1995، بدأت تركيا حملة واسعة النطاق عبر الحدود، عرفت باسم "عملية الفولاذ واحد Çelik-1 Harekatı"، تم فيها نشر نحو 35 ألف جندي قاموا بالتوغل نحو 60 كم في عمق الأراضي العراقية، بدعم كبير من قواعد القوات الجوية الواقعة في مدينة ديار بكر جنوب شرقي البلاد.

أما قوات العمليات الخاصة التركية، المعروفة باسم القبعات الخمرية، فقد توغلت بشكل أعمق خلف خطوط العدو. وقد تكون عملية الفولاذ واحد أكبر من التدخل العسكري التركي في قبرص.

بلغت العمليتان اللتان حدثتا سنتي 1992 و 1995 ذروتهما في سنة 1997، وانتهى الأمر بنشر قوات دائمة بمستوى لواء في شمال العراق. وهدفت أنقرة ببناء قاعدة العمليات المتقدمة هذه إلى حرمان حزب العمال الكردستاني من قدراته التكتيكية العميقة ومنعه من العودة إلى الساحة من جديد.

يضاف إلى أنه في ظل الحرب الأهلية الكردية العراقية في التسعينيات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، كان الهدف الثاني لتركيا هو منع سيطرة الأخير بسبب انحيازه لحزب العمال الكردستاني، وكذلك موقعه الموالي لإيران.


التقرير (Turkey’s Forward-Basing Posture) الذي أعدّه الدكتور "جان كسب أوغلو"، وهو حاصل على درجة الدكتوراه من "معهد الأبحاث الاستراتيجية" في "الكلية العسكرية التركية"، تمت ترجمته من اللغة الإنكليزية من قبل "مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات".

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!