د. سعيد الحاج - المعهد المصري للدراسات 

أبدت الدول العربية والإسلامية رفضاً واضحاً لقرار الرئيس الأمريكي اعتراف بلاده بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، في تجاوز سافر للحق الفلسطيني والقرارات الدولية ذات الصلة بل والموقف الأمريكي الرسمي منذ 1995، لكن الأنظار تركزت أكثر على الموقف التركي لأسباب عدة.

أولاً لأن تركيا بلد ذو أغلبية مسلمة ودولة إقليمية فاعلة، وثانياً لأنها الرئيس الدوري لمنظمة التعاون الإسلامي، وثالثاً بسبب التصريحات اللافتة للرئيس اردوغان، ورابعاً وأخيراً بسبب المكانة الخاصة التي تتبوأها القدس من منظور السياسة الخارجية التركية.

فلئن كان الحديث ممكناً عن مقاربة تركية واضحة المعالم للقضية الفلسطينية، فإن القدس هي العنوان الأبرز والأكثر حساسية في هذه المقاربة لأسباب دينية وتاريخية وفكرية وثقافية، تتعلق أساساً بنظرة تركيا لنفسها كوريث لآخر دولة ذات سيادة على القدس قبل احتلالها – الدولة العثمانية – واحتضان المدينة لعدد من آثارها الماثلة حتى اليوم، وهو ما عبر عنه الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين حين تحدث عن “المسؤولية التاريخية” التي يستشعرها الشعب التركي إزاء “القدس التي خدمها لـ 400 عام”.

ولهذه الخصوصية، فقد كان رد الفعل التركي عامّاً شمل كل المستويات الرسمية والحزبية والنخبوية والشعبية. فقد صدرت تصريحات من مختلف المستويات الرسمية التركية من رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء إلى وزير الخارجية إلى الناطقّيْن باسم الرئاسة والحكومة إلى عدد كبير من الوزراء والنواب، ركزت كلها على خطأ القرار والدعوة للعودة عنه، يتقدمها تصريح اردوغان بأن “القدس خط أحمر”.

ولم يقتصر الأمر على الحكومة وحزب العدالة والتنمية، فقد قدمت مختلف الأحزاب التركية مواقف متقدمة في رفض قرار ترمب، قبل أن تتوافق الأحزاب الأربعة الممثلة في البرلمان على بيان مشترك، وهو أمر نادر الحدوث في تركيا مؤخراً. وأما المستوى الشعبي فقد كان الأكثر حضوراً، بمظاهرات وفعاليات في عدد كبير من المحافظات التركية في مقدمتها أنقرة وإسطنبول، دعت إليها مؤسسات المجتمع المدني وشارك في إحداها 20 نائباً برلمانياً.

يرى البعض أن سقف الموقف التركي متأثر بأزمة العلاقات التركية – الأمريكية مؤخراً، وهو أمر حاضر بالتأكيد ومتعارف عليه في العلاقات الدولية إذ يتأثر سقف موقف أي دولة في قضية ما بعلاقاتها مع أطراف نلك القضية، لكنها ليست السبب الرئيس للموقف التركي بل ما سبق ذكره من خصوصية القدس بالنسبة لأنقرة فضلاً عن استشعارها لمسؤولية إضافية باعتبارها الرئيس الدوري لمنظمة التعاون الإسلامي.

الموقف التركي عبر عنه اردوغان في كلمته يوم الثلاثاء أمام كتلة حزبه البرلمانية، برفض القرار والتنديد به، ولكن أيضاً عبر التهديد بالخطوات التركية المتوقعة إذا ما صدر القرار عن ترمب. عملياً، أشار الرئيس التركي لثلاثة مسارات ستلجأ لها بلاده، هي دعوة قادة الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي لاجتماع طارئ، وتحريك الشارع في العالم الإسلامي، واحتمالية قطع العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل”.

وقد دعت تركيا بالفعل لقمة طارئة للمنظمة يوم الأربعاء المقبل، وبدت عواصم العالم الإسلامي ومدنه متفاعلة مع الحدث في مشهد مرشّح للمزيد ابتداءً من اليوم/الجمعة، فهل يبدو قطع العلاقات مع تل أبيب خياراً تركياً ممكناً؟

نظرياً يبدو ذلك ممكناً. فعودة العلاقات بين تل أبيب وأنقرة كانت اتفاق الضرورة بالحد الأدنى من العلاقات في سياق بعيد عن التحالف الاستراتيجي الذي ميز علاقاتهما في تسعينات القرن الماضي، ولم يجسر اتفاق تطبيع العلاقات الموقع بينهما في حزيران/يونيو 2016 فجوة الثقة بينهما، ولا منع التصريحات العدائية والسلبية بينهما بما في ذلك التصريحات الكثيرة التي صدرت عن سياسيين “إسرائيليين” تعقيباً على تصريحات اردوغان ومواقف أنقرة. ولعله الأبرز هنا تصريح رئيس الكنيست قبل أسابيع أن “اردوغان سيبقى عدواً رغم عودة العلاقات” وتصريح وزير الثقافة الصهيوني قبل يومين بأنه – أي اردوغان – “متطرف إسلامي لن يغير جلده” معبراً عن خطأ الاعتذار الذي قدم له.

هذا التوتر في العلاقات المضطربة أصلاً وسقف الموقف التركي المرتفع في القضية يوحيان بإمكانية قطع تركيا لعلاقاتها مع دولة الاحتلال، لكن الواقع العملي يشي بصعوبة ذلك. فالعلاقات قطعت في 2010 بعد اعتداء مباشر على سفينة مرمرة ارتقى خلاله عشرة شهداء من الناشطين الأتراك، وعادت العام الفائت فقط بعد ضغوط أمريكية وعوامل أخرى عديدة، وهذا يعني أن إعادة قطعها قد يكون أصعب من المرة الفائتة، كما يُستبعد أن تذهب أنقرة لخيار تجميد العلاقات مع تل أبيب احتجاجاً على موقف أمريكي بالأساس.

ما يبدو متوقعاً أكثر هو خطوات دبلوماسية مثل طلب السفير التركي للتشاور أو سحبه من تل أبيب أو استدعاء السفير “الإسرائيلي” في انقرة لتسليمه رسالة احتجاج أو ما شابه، لكن هذا لا يعني أن الذهاب إلى آخر الشوط في تجميد العلاقات مؤقتاً قد لا يكون خياراً تركياً متاحاً.

بيد أن هذا القرار سيعتمد إلى حد بعيد على ثلاثة عوامل مهمة يضعها صانع القرار التركي نصب عينيه، سقف الموقف الشعبي التركي والتطورات الميدانية في فلسطين المحتلة والموقف العربي – الإسلامي الرسمي من القرار الأمريكي، وهو ما يعني أن ثلثي العوامل المؤثرة في القرار التركي ليست تركية المنشأ، بل فلسطينية وعربية في الأساس.

إن موقفاً تركياً منفرداً سيكون أضعف بكثير من موقف عربي – إسلامي مشترك يخرج عن الاجتماع الطارئ لمنظمة التعاون الإسلامي وقبلها اجتماع وزراء خارجية الجامعة العربية يوم السبت. ولعل الإشارة التركية كانت واضحة جداً بكون القدس “خطاً أحمر لكل المسلمين” وليس فقط لتركيا، ما يضع المسؤولية على عاتق الجميع. وعليه ستكون مخرجات القمة يوم الأربعاء المقبل محددة  جداً ومؤثرة في سقف القرار التركي والخطاب المنبثق عنه، ولعل أولى الإشارات على ذلك ستكون مستوى تمثيل الدول الاعضاء في تلك القمة.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس