أرسين جليك - يني شفق

في صباح اليوم الثاني عشر من هذه الرحلة، حين وطئت قدماي خشب السطح المبتل، راودني شعور عميق بأني بدأت أُصبح جزءًا من البحر. إنه يومنا الخامس من الإبحار في عرض المحيط، والأسطول يمضي في مساره المعتاد. وبينما تقرؤون هذه السطور، سنكون قد بلغنا مشارف جزيرة كريت، وقد قطعنا ثلث الطريق نحو غزة.

مع حلول الليل، هبّت الرياح مجددًا، فتلاطمت الأمواج واهتزّت مراكبنا، لكني أدركت أن أجسادنا تكيفت مع هذه الهزات المتكررة. نعم، لقد اعتدنا الأمر. حتى زملاؤنا الذين عانوا مشاكل صحية في البداية، بدؤوا يتماثلون للشفاء. وطبيبنا البروفيسور الدكتور حشمت يازجي، يبقينا نشيطين بفضل تدخّلاته في الوقت المناسب.

وفي الصباح، بسبب ضيق مساحة الحركة على متن السفينة، أجدني أحاول القيام ببعض تمارين التمدّد في موضعي ذاته. وبرغم قلّة الجهد المبذول، فإنها تمنحني راحة ونشاطًا. وقد لاحظت أن معظم الرفاق قد فقدوا شيئًا من أوزانهم، وهو أمر طبيعي. لا نعاني هنا من مشاكل في التغذية، غير أنّنا – ونحن نمضي صوب غزّة حيث يموت الناس جوعًا – لا يمكن أن تكون الأولوية سوى الحفاظ على قوتنا بالحدّ الأدنى من الأغذية الجافة. لسنا جائعين، ولا نعاني من نقص في الغذاء.

وأود أن أضيف أننا منذ اثني عشر يومًا، لم نرتدِ حذاءً أو نعلاً أو حتى جوربًا. أدركتُ منذ اليوم الأول على متن القارب أن المشي حافيًا فوق السطح، سواء كان مبتلًا أو جافًا، يُسهّل علينا الرحلة كثيرًا. عندها أيقنت أن بعض المصاعب تزيدنا قوة. نحن في الواقع نمر بعملية تهذيب، لنتعلم كيف نشكر، ونتأمل لساعات، ونعيد النظر في تعلقنا بنعيم الدنيا. كثيرا ما أتحدث مع البروفيسور حشمت عن العواصف الصامتة بداخلنا، فنستخلص منها دروسًا مهمة. إن المسير إلى غزّة يعيد برمجتنا تماما.

صباح أمس أدركتُ بشكل أفضل معنى هذه "البرمجة الجديدة". لقد أمضيت وقتًا طويلًا أتأمل في البحر اللامتناهي. ثم عدت إلى القارب بنداء من أحدهم. فقد طلب مني مساعد القبطان أن أساعده في ضبط زاوية الأشرعة وشدّها، بعدما تغيّرت جهة الرياح. منذ أيام وأنا أتابع عن كثب كل حركة يقوم بها البحّارة. لا يمكن القول إنني تعلمت من مجرد الرؤية، لكنني أعرف الآن كيف يقومون بذلك. أعطاني المساعد حبلاً غليظًا وطلب مني أن أرخيه ببطء، بينما كان هو يشد الحبل الآخر الملفوف على البكرة المقابلة ليجعل الشراع مشدودًا. كان ذلك يتطلب مجهودا بدنيا كبيرا. ورغم أن الأمر لم يستغرق سوى خمس دقائق، شعرت بالتعب. إن السيطرة على قوة الرياح التي تدفع هذا القارب إلى الأمام، تشبه تمامًا كفاحنا من أجل تحرير غزة: تحتاج إلى الصبر والقوة معًا. وبينما كان الحبل يترك آثارًا مؤلمة في يدي، تذكرت قلوب المقاومين في غزة وقد غدت متصلبة كالصخر في مواجهة الإنسانية المتخاذلة.

وعندما توقفت لألتقط أنفاسي على سطح السفينة، والحبل قد ترك أثره على كفي، وملح البحر يتناثر على وجهي، قاطعني الصوت الأكثر ألفة في عالمنا المعاصر: إشعار هاتفي المحمول. لقد كان تذكيرًا مفاجئا انتزعني من أجواء البحر وأسقطني في ذكرى تعود إلى عام مضى. ففي مثل هذه الأيام من العام الماضي، كنت في الولايات المتحدة أغطي اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وظهرت على شاشة هاتفي آنذاك صورة لي أمام مبنى الأمم المتحدة، مرتديًا بدلة رسمية. أما اليوم، فأنا منذ أيام في الملابس ذاتها، التي غدت أشبه بزيّ رسمي. لقد علّمتني الصحافة كيف أتأقلم مع مختلف الظروف. لقد أحببت مهنتي إلى الحدّ الذي يجعلني لا أجد فرقًا بين ارتداء بدلة رسمية أو قميص قطني لا أبالي إن اتسخ.

قبل عام، كانت غزة أيضًا محور اهتمامي في نيويورك. كنت أتابع تصريحات القادة، وكتبت في مقال بعنوان "الفرصة الأخيرة للإنسانية" ما يلي: "إذا تحقّق التحالف الإنساني الذي تحدّث عنه الرئيس أردوغان، عبر نزول الشعوب إلى الشوارع، لا في أروقة الأمم المتحدة، فإن الدول عندها ستُرغم على التحرّك. إن نزول الناس إلى الساحات، ومواجهتهم لقوات الأمن منذ السابع من أكتوبر، كان له تأثير كبير في دفع العديد من الدول الأوروبية المؤيدة لإسرائيل نحو صف فلسطين. وإذا لم تنهض الإنسانية الآن، بينما تمتد الحرب إلى لبنان، فسنكتفي بمشاهدة أيام لن نتمكن من الوقوف فيها مجددًا".

هذه الكلمات التي كتبتها في نيويورك وسط المباني الإسمنتية، تحولت اليوم إلى فعل حي في مياه البحر الأبيض المتوسط. لم نعد نبحث عن "تحالف الإنسانية" في الأروقة الدبلوماسية، بل بين الأمواج على متن هذه القوارب، حيث يقف أصحاب الضمير جنبًا إلى جنب.

عام واحد فقط يفصل بين عالمين مختلفين من أجل القضية ذاتها: عالم البدلات الرسمية وفنادق الرفاهية، وعالم المياه المالحة والقوارب المهتزة. لكن روحي والحمد لله، ما زالت في ذات المكان: في غزّة.

 

سجل الران: بعد كريت، سنصل إلى غزة خلال 4-5 أيام

تقرير قبطاننا حسام الدين أيوب أوغلو ليومي الثلاثاء والأربعاء:

"الثلاثاء،23 سبتمبر، الساعة 06:30 صباحًا، بتوقيت غرينتش. اتجاهنا 109 درجات شرقًا. سرعتنا 4.8 عقدة. سرعة الرياح 9.4 عقدة، اتجاه الرياح 30 درجة. البحر هادئ تمامًا، ارتفاع الأمواج نصف متر تقريبًا. إذا أردنا تلخيص الساعات الأربع والعشرين الأخيرة، فنحن في طريقنا إلى كريت. لقد اقتربنا كثيرًا منها. خلال النهار، توقفنا لبضع ساعات لإعادة تزويد بعض القوارب بالوقود وإصلاح بعض الأعطال. بعض رفاقنا شعروا بالإعياء، وتم نقل الحالات الحرجة إلى سفينة أكبر، ومنها سيتم إجلاؤهم إلى كريت لتلقي العلاج في المستشفى. أسأل الله أن يشفيهم عاجلًا. الحمد لله، الأمور تسير على ما يرام. التأخير الذي حدث أمس جعلنا نتأخر قليلًا عن الجدول الزمني، ولكننا ما زلنا نتقدم بشكل جيد. ربما يستغرق اجتياز كريت يومًا ونصف اليوم. وإذا لم يحدث تأخير فسنكون إن شاء الله، خلال 4-5 أيام في غزة. ننتظر منكم الدعاء، والتضرع، والابتهالات. علينا أن نظهر عجزنا ليرحمنا الله. نسأل الله أن يتلطف بنا كما يتلطف بأهل غزة. دمتم سالمين، والسلام عليكم."

رسائل منكم:

بالأمس، أرسل لي السيد سيزاي أوراك هذه الكلمات التي كتبها من أجل أسطول الصمود، بارك الله فيه، لقد سكب فيها كل ما في قلبه، ووثَّق مشاعره لتكون في سجلاتنا:

"من سعة البحر الواسع ترتفع دعوة، تفتح آفاقًا لا نهائية لضمير الإنسانية. تثير صدى في أعماق الروح، وتتضرع لله عز وجل بأنين خافت، يلامس أقدس زوايا الروح البشرية...

إن زرقة البحر الواسع، كالمرآة تعكس اليأس الكامن في أعماق الروح. لقد كانت هذه العاصفة في يوم من الأيام عاصفة قلب يصرخ 'لا أستطيع'، ويظن أن قوته قد استُنفدت. كل موجة تحمل شكًا وخوفًا في قلب الأمة الإرهابية الملعونة، إسرائيل الصهيونية وعملاؤها.

ذلك الصوت المرتعش الذي كان صرخ: 'لن يفهموني، سيضعون العقبات في طريقي، سأُهزَم مجددًا، أبحر مرة أخرى نحو الأفق... يا أعداء الإنسانية المتغطرسين سوف تهزمون.

نعم، ذكرى محاصرة داخل صدفة بحرية يملؤها اليأس. كانت كلمة "مستحيل" ثقيلة على الروح كالأغلال. لكن للبحر إيقاعه الخاص؛ ففي أشد لحظات العاصفة، استمر صوته الحكيم في التحدث. لم يكن صرخة ولا نحيبا، بل كان فوق كل شي صدى ضمير الإنسانية. وفجأة انشق البحر قسمين كمعجزة. 'فلتجرِ باسم الله نحو غزة، أيها الفراعنة عليكم أن تخافوا.

لم يعد أسطول الصمود يخشى العاصفة أو ثقل المستحيل. بل غدا مسافرًا في رحلة يقودها ضمير الإنسانية، ويتقدم تاركًا آثاره وسط البحر المتلاطم. لقد تبخرت جميع قيود الماضي كقطرة ماء. وباتت الحركة إلى الأمام الخيار الأوحد. فحين يُهزم العائق الأكبر، يغدو الطريق نفسه صرخة وجودية باسم الإنسانية جمعاء. ولم يعد صوت الماء مصدر خوف، بل نشيدًا للحرية.

فليكن مجدكم وشرفكم، وحظكم وقدركم، أسطورةً خالدةً في صحائف التاريخ.

مع أطيب تحياتي.."

في مثل هذه الأيام من العام الماضي، كنت في الولايات المتحدة أغطي اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. عام واحد فقط يفصل بين عالمين مختلفين من أجل القضية ذاتها: عالم البدلات الرسمية وفنادق الرفاهية، وعالم المياه المالحة والقوارب المهتزة. لكن روحي والحمد لله، ما زالت في ذات المكان: في غزّة.

عن الكاتب

أرسين جليك

كاتب وصحفي تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس