محمود عثمان - الأناضول

مع بداية الحملة العسكرية على الغوطة الشرقية بريف دمشق, أدلى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بتصريح لافت قال فيه إن "الاتفاقات التي تم التوصل إليها مع المسلحين لمغادرة (مدينة) حلب، أواخر عام 2016، يمكن أن تتكرر في الغوطة"، معربا عن أمله في أن يتم اتخاذ كافة الاحتياطات والتدابير اللازمة.

يتبع الروس ومعهم الإيرانيون والنظام السوري استراتيجية تقسيم الغوطة الشرقية إلى قسمين, شمالي وجنوبي, وهي الاستراتيجية العسكرية نفسها التي طبقوها عندما قسموا حلب الشرقية إلى قسمين, فسهل عليهم السيطرة عليهما, بعد تطبيق سياسية الأرض المحروقة، التي تقتل البشر، وتدمر الحجر، وتحرق الشجر.

يعتمد التكتيك العسكري الروسي على تكريس وتعميق الانقسام بين فصائل المعارضة الموجودة على أرض الغوطة، برسم حدود فاصلة بين المناطق التي يسيطر عليها كل من "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن" و"حركة أحرار الشام".

السيناريو الروسي في حلب, اعتمد على تدمير جميع مقومات الحياة الأساسية، ومنها المستشفيات والبنى التحتية والأسواق وأماكن البيع والشراء، وحتى مخيمات اللاجئين.

الهجوم الثلاثي، من روسيا وإيران والنظام، على الغوطة أيضا لم يقتصر على الشق العسكري فحسب، إذ سبقه تشديد الحصار وإحكام الخناق بشكل شبه تام، على 400 ألف مدني، هم في الأصل يرزخون تحت الحصار والتجويع منذ عام 2013.

بدأ الهجوم الثلاثي على الغوطة الشرقية بتطبيق نموذج غروزني (عاصمة الشيشان)، فقد تم تدمير ثلاثين مستشفى ومركزا صحيا ومراكز الدفاع المدني, في حملة ممنهجة، تماما كتلك التي تم تطبيقها في حلب.

بدأت عملية اقتحام الغوطة بدفع قوات "سهيل الحسن"، الملقب بالنمر الوردي، الذي يتلقى أوامره من القيادة الروسية مباشرة وليس من النظام, إلى تنفيذ عمليات الاقتحام.

ثم تقوم الفرقة الرابعة، التي يشرف على قيادتها ماهر الأسد، المنوط بها مهمة حراسة القصر الجمهوري أي حراسة نواة النظام فقط, بالمشاركة في معارك الغوطة، في دلالة واضحة على مدى الأهمية القصوى التي يوليها الروس لعملية اقتحام الغوطة.

تكتيك جديد يتبعه الروس والنظام في معارك الغوطة، حيث يجند النظام الشباب عنوة، من المناطق التي تمت فيها المصالحات، ويضمهم للفرقة الرابعة تحديدا، للزج بهم في معركة الغوطة، دون تزويدهم بأسلحة حديثة كافية.

وبهذا يكون هؤلاء الشباب عرضة للقتل أو الأسر، وهو ما لا يهتم به النظام، فإذا وقعوا في الأسر, فسيصبحون عالة على قوات المعارضة، التي لا تملك الطعام الكافي لجنودها, والمدنيين المحاصرين معها.

والمهم بالنسبة للنظام والروس ألا يكون القتلى من حواضنهم الشعبية.

** سياسة حافة الهاوية 

حاول الروس من بداية تدخلهم العسكري المباشر في سوريا، الإمساك بجميع خيوط المعادلة السياسية، لكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل، إذ فشلوا في السيطرة على عملية السلام في جنيف, فتحولوا إلى مباحثات أستانة (عاصمة كازخستان), ثم تحولوا إلى (مؤتمر) مدينة سوتشي الروسية بشأن سوريا (30 يناير/ كانون ثان الماضي)، لكن أيضا دون نتيجة تذكر.

بعد أن انتهى مؤتمر سوتشي بلا شيء, طرح الأمريكان ورقة الدول الخمس, التي سميت في الأمم المتحدة بـ"اللا ورقة", ومن شأنها تجريد الروس من أية مكاسب تذكر في سوريا, خصوصا بعد إشراك بريطانيا وفرنسا في العملية السياسية.

رد الروس على التحرك الأمريكي بدعم الإيرانيين، الذين تسعى إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى تحجيم دورهم في المنطقة عموما، وفي سوريا خاصةً.

فقد دفع الروس الإيرانيين باتجاه دير الزور ومطار التنف، ودعمتهم بجنود روس مرتزقة، في محاولة لخلط الأوراق في وجه الأمريكان.

اعتمد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في هذه المرحلة على سياسة حافة الهاوية، حيث يقوم بالتصعيد وتأزيم الأمور حتى تبلغ حافة الاشتباك المباشر مع الأمريكان, ثم يتوقف عند هذا الحد.

لكن هذه المرة يبدو أنه لم يبق أمام بوتين سوى خيار استعمال القوة الخشنة، باستخدام أحدث الأسلحة التي تمتلكها الترسانة الروسية, من طائرات السوخوي 57, ودبابات T95، وغيرها من الأسلحة المتطورة.

وأخيراً تهديد بوتين باستخدام السلاح النووي إن لزم الأمر, في سابقة لم يشهدها التاريخ الحديث منذ انهيار الاتحاد السوفيتي ! (عام 1991).

التصعيد العسكري الروسي, ومحاولة السيطرة على الغوطة بأي ثمن, يدل بوضح على أنها الخيار الأخير بيد الروس من أجل حسم عسكري يمكنهم من التحكم بالقضية السورية بشكل شبه تام.

ولذلك يقود الروس الحملة العسكرية على الغوطة بأنفسهم، وليس اعتمادا على النظام والإيرانيين كما في السابق.

** احتمالات المواجهة

الموقف الأمريكي اليوم على المحك العملي فعليا، أكثر من أي وقت مضى, فالأمريكان وجها لوجه أمام امتحان المصداقية.

إن سقطت الغوطة بيد الروس والنظام, فهذا يعني أن جميع الوعود الأمريكية, من الخطوط الحمراء إلى البيانات والتصريحات والتهديدات عالية الوتيرة, لم تكن سوى ذراً للرماد في العيون. والأهم أن ذلك سيعني تسليم الملف السوري بكامله للروس والإيرانيين, بخلاف توجهات الإدارة الأمريكية الحالية.

يدور الحديث في كواليس السياسة الغربية، ولاسيما واشنطن ولندن وباريس وأروقة الأمم المتحدة, عن سيناريوهات محتملة، في حال عدم التزام الروس والنظام بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2401 (الصادر في 24 فبراير/ شباط الماضي), والذي يقضي بوقف إطلاق النار لمدة شهر, مع السماح لقوافل المساعدات الإنسانية بالوصول إلى المحاصرين في الغوطة.

من بين هذه السناريوهات احتمال تحريك جبهة أوكرانيا في وجه الروس، أو تنفيذ ضربات أمريكية وبريطانية وفرنسية مشتركة ضد أهداف استراتيجية للنظام السوري.

إن الرسالة الروسية- الإيرانية من إسقاط الطائرة الإسرائيلية (في 10 فبراير/ شباط الماضي) تبدو ردا على السيناريو الأخير، أي أنه في حال استهداف النظام من جانب الأمريكان وشركائهم بضربات مؤلمة, فإن الروس والإيرانيين مستعدون للاشتباك والمواجهة العسكرية مع أي طرف كان. حتى إسرائيل!.

** الغوطة وغزة

ثمة أوجه تشابه كثيرة بين حصار الغوطة من جانب النظام السوري وحصار قطاع غزة الفلسطيني من جانب إسرائيل.

فكلاهما محاصر لفترة طويلة، وكلاهما اضطرته ظروف الحصار الطويل إلى إتباع التكتيكات تفسها تقريبا، ومنها: الأنفاق، وتصنيع الأسلحة والذخائر بالوسائل الذاتية المتوفرة محليا, وحتى تكتيكات القتال ومواجهة الخصم نفسها تقريبا.

لا شك أن صمود أهل غزة الأسطوري في مواجهة الحصار القائم منذ سنوات طويلة، رغم تخلي الصديق والشقيق, والبعيد والقريب, شكل مثالا يحتذى به لأهل الغوطة, ودافعا نفسيا كبيرا وحافزا لهم على الصمود وتحدي الصعاب.

كما أن سلوك النظام في المناطق التي اضطرت للاستسلام والرضوخ للمصالحات, شكل هو الآخر دافعا آخر للصبر والصمود.

بالتأكيد خيارات أهل الغوطة ليست بالكثيرة، لكن إطالة أمد المعركة, ونجاح الثوار في تكبيد النظام خسائر بشرية كبيرة من حواضنه البشرية تحديداً, سيشكل عاملا أساسيا في كسر الحصار وصمود الغوطة.

الخيار الآخر هو تحريك بقية الجبهات في وجه النظام, وهذا خاضع لاتفاقات دولية وإقليمية, ليس من السهولة التنصل منها.

لكن إذا علمنا أن استمرار الثورة السورية أو نهايتها مرتبط بشكل رئيسي بمصير الغوطة, عندئذ لا قيمة لتلك الاتفاقيات، لأنها ستكون في حكم المنتهية فعليا, حال سيطرة النظام على الغوطة.

هناك جبهات تعتبر خواصر رخوة للنظام, لأن جهده العسكري مستغرق في جبهة الغوطة, ولا يحتفظ إلا بقوات رمزية في هذه الجبهات، لذلك فإن أي تحريك لتلك الجبهات سيربك النظام, ويشتت قواه, وفي ذلك دعم كبير لثوار الغوطة.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس