ترك برس

عمدت الولايات المتحدة إلى الضغط على حدود اتفاقية "مونترو"، المعنية بتنظيم حركة المرور عبر مضائق البحر الأسود في أوقات السلم والحرب، وذلك بهدف اكتساب موضع قدم لها في هذا البحر، وسط استياء تركي روسي.

دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ عام 1936، بهدف تنظيم حركة مرور السفن الحربية والتجارية عبر المضائق التركية إلى البحر الأسود وفترة بقائها في هذا البحر، وتشمل سفن الدول المطلة (أوكرانيا وروسيا وجورجيا وتركيا وبلغاريا ورومانيا) على البحر الأسود وغير المطلة.

وخلال الحرب الباردة، كانت هذه الاتفاقية تعتبر بمثابة صمام أمان بالنسبة لتركيا والدول الغربية في مواجهة التهديدات السوفيتية، وفق تقرير تحليلي أعدّه الكاتب "فاتح أرباش"، خبير الاستراتيجيات الأمنية الدولية.

أما بعد الحرب الباردة، يقول "أرباش" الذي شغل عدة مناصب سابقة في القوات المسلحة التركية وحلف الناتو، إن اتفاقية مونترو شهدت تحولًا من حيث المفهوم والأهمية، حيث تغيرت موازين القوى في البحر الأسود إثر تفكك الاتحاد السوفييتي وميول الدول الواقعة تحت سيطرة روسيا نحو الدول الغربية الواحدة تلو الأخرى.

ونتيجة لذلك، بدأت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة بالضغط على إطارات "مونترو"، حسب ما ورد في تقرير "أربَاش" الذي نشرته وكالة أنباء الأناضول التركية.

وكان الأسطول البحري الأمريكي السادس في البحر الأبيض المتوسط، أعلن عبر موقعه الإلكتروني، دخول باخرتين حربيتين تتبعان لها من طراز "ارلييغ بوركي" إلى البحر الأسود بتاريخ 18 فبراير/ شباط الماضي.

وقالت أمريكا أن الهدف من ذلك "استمرار وجودها العسكري في المنطقة من خلال إجراء عمليات الأمن البحري، وتعزيز الاستقرار في البحار بالمنطقة، وتقوية الجاهزية العملياتية بين الحلفاء في الناتو وشركائهم".

الجانب الروسي لم يتأخر في الرد على هذه الحادثة، إذ أرسل على الفور بارجة وسفينتين مخصصتين للمهام الدورية إلى البحر الأسود.

ولم تكف واشنطن عن ضغوطاتها الرامية لإكساب اتفاقية مونترو بعض المرونة، حتى في أصعب الأيام، حيث كانت قد أرسلت مستشفى عائم (باخرة مستشفى) إلى بحر مرمرة لدى وقوع زالزلٍ في تركيا عام 1999، على أن تذهب منها إلى البحر الأسود، إلا أن الجانب التركي أعاق مرورها في نهاية المضيق من جهة البحر الأسود ولم يسمح لها بمواصلة طريقها.

كما ساهمت عدة تطورات سياسية في المنطقة في إجراء تغيير عميق في بنية البحر الأسود، ومن بين هذه التطورات، الثورات الملونة على غرار الأحداث التي شهدتها أوكرانيا وجورجيا، فضلًا عن انضمام كل من بلغاريا ورومانيا إلى حلف الناتو أولًا ومن ثم إلى الاتحاد الأوروبي.

ونتيجة لذلك، أخذت الولايات المتحدة تسعى لإطالة مدة تواجد سفنها في البحر الأسود أطول مدة قانونية ممكنة، وتحميل حمولة أكثر من الحد الأقصى المسموح به حسب اتفاقية مونترو.

ووقفت الجمهورية التركية على الدوام في وجه محاولات الانتهاكات الأمريكية لبنود الاتفاقية، وكانت في كل مرة تذكرها بالقوانين الدولية، لكن هذا الأمر لم يثنِ واشنطن عن مساعيها الرامية لتغيير موازين القوى في البحر الأسود لصالحها.

وردًا على إعلان الولايات المتحدة مقصدها من التواجد في البحر الأسود بالقول "الحفاظ على الأمن البحري في المنطقة"، أكدت تركيا والدول الأخرى المطلة على البحر الأسود لحلفائها الغربيين أن الحفاظ على الأمن في هذا البحر هو من مسؤوليتها.

وإضافة إلى ذلك، أطلقت دول البحر الأسود بقيادة تركيا عملية لإدارة الأزمة، ومن ثم عملية آخرى تحت اسم "التجانس في البحر الأسود" للحفاظ على الأمن البحري، إلا أن ذلك أيضًا لم يؤدي إلى تخلي الولايات المتحدة عن رغبة التدخل في البحر الأسود.

وفي الوقت الحالي، تؤكد كل من تركيا وروسيا مرارًا وتكرارًا عن اِستيائهما من الوجود الأمريكي في البحر الأسود.

وتحمل اتفاقية مونترو أهمية كبرى بالنسبة لتركيا لكون بنودها تحدد عدد السفن الحربية والتجارية التي ستمر من المضائق التركية، وأنواعها، ووزن الحمولة المسموحة لها، إذ تم اتخاذ الأمن التركي أساسًا في صياغة هذه البنود.

وتتيح الاتفاقية تسهيلات للدول المطلة البحر الأسود، إذ تسمح لها بتواجد وإنشاء سفن حربية على مياهه، لكنها مضطرة أيضًا لإعلام الجانب التركي قبل فترة محددة من مرور سفنها الحربية من المضائق، إذ يجب أن يكون الحد الأقصى للسفن المارة من المضيق في نفس الوقت 9 سفن، ويجب أن يبلغ الحد الأقصى لحمولتها مجتمعة 15 ألف طن.

كما تشترط الاتفاقية على الدول المطلة على البحر الأسود، في حال كانت تريد مرور غواصاتها من المضيق، إخبار تركيا بذلك أولًا، على أن تمر منه خلال ساعات النهار والظهور على سطح المياه وقت العبور.

ومن جهة أخرى، تفرض الاتفاقية عددًا من القيود على الدول الغير المطلة على البحر الأسود، إذ يجب ألا يزيد وزن حمولتها 45 ألف طن، شريطة ألا يتجاوز وزن السفن التابعة لدولة واحدة فقط ثلثي هذا الرقم.

ورغم أن وزن السفينتين الأمريكيّتين المُتواجدتين في البحر الأسود هو ضمن الحدود المتاحة، إلا أنه ليس سببًا لتواجدها هناك، ما يؤدي إلى انزعاج تركيا وروسيا.

وترغب الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة عدم تطبيق أي قيود عليها في البحر الأسود، ولهذا السبب تحاول في كل فرصة لكشط تلك القيود، إذ تأمل واشنطن تواجد قواتها في مياه البحر الأسود بالمدة التي تريدها، كما هو الحال في كافة البحار التي تتواجد سفنها فيها.

أما تركيا فإنها تؤكد في كل مرة أنه ليست هناك أزمة أمنية في البحر الأسود، وأنها تتولى مسؤولية حفظ الأمن فيه برفقة الدول المطلة عليه، إلا أن الولايات المتحدة تصر رغم ذلك على عدم بقاء البحر الأسود خارج سيطرتها.

ويتضح في الختام أن الولايات المتحدة ستواصل الضغط على حدود اتفاقية مونترو بهدف اكتساب موضع قدم لها في البحر الأسود، في حين ستعمل تركيا وروسيا على الوقوف في وجه الانتهاكات والتواجد الأمريكي في المنطقة، فالوضع الأمني لا يستوجب وجود السفن الأمريكية، التي لا تحمل معنىً سوى أنها محاولة لزعزعة الأمن في المنطقة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!