د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

استقطبت الدراما التاريخية التركية وخاصة المسلسل التاريخي الأخير قيامة أرطغرل أنظار المتابعين حول نشأة الدولة التركية العثمانية في الأناضول. ومهما تداخلت الدراما ومبالغاتها مع المشاهد التاريخية الحقيقية ولكنها تعكس صورة وتعطي فكرة عامة عن بدايات نشوء دولة آل عثمان التي حكمت العالم الإسلامي قرونًا طويلة من الزمن.

لقد قَدِمَ العثمانيون الأتراك من بلاد الشرق وهم من أصول مغولية، أيّ من أبناء البشرة الصفراء إذا جاز التعبير. ودائمًا يحدث خلط كثير بين أصول هؤلاء الأقوام وموطنهم في الأناضول. وقبل قيام دولتهم في الأناضول دخل متطوعون ومماليك كثر منهم في الجيوش الإسلامية في العصر الأموي والعباسي والأيوبي، وتقلدوا أرفع المراتب العسكرية حتى وصلوا للسلطة فيما بعد، وشكلوا دولًا حكمت بلاد المسلمين سواء كانت الزنكية أو المملوكية أم السلجوقية وآخرها الدولة العثمانية.

 نشأة العثمانيين وأصولهم:

ينتسب العثمانيون إلى قبيلة تركمانية كانت تعيش في كردستان وتزاول حرفة الرعي في القرن السابع الهجري الموافق الثالث عشر الميلادي. واتصف الأتراك على أنهم قبائل بدوية امتهنت الحرب والفروسية والغزو في وقت مبكر، وقد كان هؤلاء من أشد المقاتلين صلابة وأكثرهم شدة في الحرب، ومنهم الفرسان الذين لا يشق لهم غبار. ونتيجة للغزو المغولي بقيادة جنكيز خان على العراق ومناطق شرق آسيا الصغرى، فإن سليمان جد عثمان غازي هاجر مع قبيلته من كردستان إلى بلاد الأناضول في عام (617ه - 1220م)، فاستقر في مدينة أخلاط في شرقي الأناضول.

بعد وفاة سليمان شاه، غرقًا في نهر الفرات أثناء عبوره، خلفه ابنه الأوسط أرطغرل (628ه - 1230م)، والذي واصل تحركه نحو الشمال الغربي من الأناضول، وكان معه حوالي مئة أسرة وأكثر من أربعمئة فارس، وحين كان أرطغرل والد عثمان فارًّا بعشيرته التي لم يتجاوز تعدادها أربعمئة عائلة، من ويلات الهجمة المغولية، فإذا به يسمع عن بُعد جلبة وضوضاء، فلما دنا منها وجد قتالًا حاميًا بين مسلمين ونصارى، وكانت كفة الغلبة للجيش البيزنطي، فما كان من أرطغرل إلا أن تقدم بكل حماس وثبات لنجدة إخوانه في الدين والعقيدة، فكان ذلك التقدم سببًا في نصر المسلمين على النصارى.

وبعد انتهاء المعركة، قدَّر السلطان السجلوقي في قونية هذا الموقف لأرطغرل ومقاتليه، فأقطعهم أرضًا (سوغوت) على الحدود الغربية للأناضول بجوار الثغور مع الروم البيزنطيين ولقبه أمير القبائل التركية في تلك النواحي. وفتح السلاجقة بذلك الطريق لأرطغرل وأبنائه للتوسع على حساب الروم، وكسب السلاجقة بذلك حليفًا قويًا ومشاركًا في الجهاد ضد الروم، وقد قامت بين هذه الدولة الناشئة وبين سلاجقة الروم علاقة حميمية نتيجة وجود عدو مشترك لهم في العقيدة والدين، وقد استمرت هذه العلاقة طيلة حياة أرطغرل، حتى إذا توفي سنة (699هـ/1299م) خلفه من بعده في الحكم ابنه عثمان؛ الذي سار على سياسة أبيه السابقة في التوسع في أراضي الروم والتعاون مع السلاجقة في حروبهم وتحالفاتهم وتنسيق العلاقات معهم.

 عثمان مؤسس الدولة العثمانية:

واد عثمان بن أرطغرل في عام 656ه - 1258م، وإليه تنسب الدولة العثمانية، وتزامنت ولادته مع الغزو المغولي لبغداد بقيادة هولاكو. وقد كان غزو عاصمة الخلافة العباسية من الأحداث العظيمة، والمصائب الجسيمة.

ولا يستعجل أهل الحق وعد الله عز وجل لهم بالنصر والتمكين، فلابد من مراعاة السنن الشرعية، والسنن الكونية، ولابد من الصبر على دين الله عز وجل: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد :4]. والله إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابه، وأتى به شيئاً فشيئاً، بالتدرج أو دفعة واحدة. وبدأت قصة التمكين للدولة العثمانية مع ظهور القائد عثمان الذي ولد في عام سقوط الخلافة العباسية في بغداد. وعندما نتأمل في سيرة عثمان غازي الأول تبرز لنا بعض الصفات المتأصلة في شخصه، كقائد عسكري، ورجل سياسي، ومن أهم هذه الصفات:

الشجاعة، والحكمة، والإخلاص، والصبر، والجاذبية الإيمانية، وعدله، والوفاء، والتجرد لله في فتوحاته، ولقد كانت شخصية عثمان متزنة وخلابة، بسبب إيمانه العظيم بالله تعالى واليوم الاخر، ولذلك لم تطغ قوته على عدالته، ولا سلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه، وأصبح مستحقاً لتأييد الله وعونه، ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة، وهو تفضل من الله تعالى على عبده عثمان، فجعل له مكانة وقدرة على التصرف في اسيا الصغرى من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار. وقد كانت رعاية الله له عظيمة، ولذلك فتح الله له باب التوفيق، وحقق له ما تطلع إليه من أهداف وغاية سامية، لقد كانت أعماله عظيمة بسبب حبه للدعوة إلى الله؛ فقد فتح الفتوحات العظيمة بحد السيف، وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان، فكان إذا ظفر بقوم دعاهم إلى الحق، والإيمان بالله تعالى، وكان حريصاً على الأعمال الإصلاحية في كافة الأقاليم والبلدان التي فتحها، فسعى في بسط سلطان الحق والعدالة، وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان، مثلما كان معادياً لأهل الكفران.

الدستور الذي سار عليه العثمانيون:

كانت حياة الأمير عثمان مؤسس الدولة العثمانية، جهادًا ودعوة في سبيل الله، وكان علماء الدين يحيطون بالأمير، ويشرفون على التخطيط الإداري والتنفيذ الشرعي في الإمارة. ولقد حفظ لنا التاريخ وصية عثمان لابنه أورخان وهو على فراش الموت، وكانت تلك الوصية ذات دلالة حضارية ومنهجية شرعية، سارت عليها الدولة العثمانية واتخذها خلفاؤه دستورًا فيما بعد، يقول عثمان في وصيته لابنه:

أ ـ يا بني إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين.

ب ـ إذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين موئلاً.

ج ـ يا بني أوصيك بعلماء الأمة أدم رعايتهم وأكثر من تبجيلهم.

د ـ اعلم يا بني أن نشر الإسلام وهداية الناس إليه وحماية أعراض المسلمين وأموالهم أمانة في عنقك.

هـ. يا بني أحط من أطاعك بالإعزاز، وأنعم على الجنود.

و ـ ولا يغرنك الشيطان بجندك ومالك.

ز ـ وإن بالجهاد يعم نور ديننا كل الافاق فتحدث مرضاة الله عز وجل.

ح ـ من انحرف من سلالتي عن الحق والعدل حرم من شفاعة الرسول الأعظم يوم المحشر.

ط. يا بني لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد، فنحن بالإسلام نحيا وبالإسلام نموت.

هذه الوصية الخالدة هي التي نهضت بها دولة آل عثمان وسار عليها الحكام العثمانيون في زمن قوتهم ومجدهم وعزتهم وتمكينهم. وترك عثمان الأول الدولة العثمانية، وكانت مساحتها (16000) كيلومتر مربع، واستطاع أن يجد لدولته الناشئة منفذًا على بحر مرمرة، واستطاع بجيشه أن يهدد أهم حاضرتين بيزنطيتين في ذلك الزمان وهي: أزنيق وبورصة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس