معتز علي محمد - خاص ترك برس

لا يختلف أحد علي عبقرية موقع تركيا في منتصف العالم القديم، حيث تربط هضبة الأناضول بين آسيا وأوروبا، كما يصل مضيقا البسفور والدردنيل بين مياه البحر الأسود والمتوسط، والذي يعتبر الشريان التجاري الأهم لروسيا.

ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في بداية الألفية، ساهمت الطفرة الاقتصادية الكبيرة التي حدثت في تركيا في تنامي التأثير الاقتصادي والسياسي لتركيا في الشرق الأوسط، بالتوازي مع رغبة الحكومة التركية في الاستقلال السياسي عن الغرب.

كما أعلن أردوغان عن خطط طموحة من أجل الدخول في قائمة أكبر دول اقتصادية في العالم بحلول 2023، برغم كل التحديات السياسية والاقتصادية التي تحيط بتركيا من كل الجهات، ومن أبرزها ثورات الربيع العربي، والخلافات مع أوروبا حول دعم التنظيمات الإرهابية.

أردوغان والربيع العربي

بعد قيام ثورات الربيع العربي عام 2011، قدم الشعب التركي وحكومته الدعم الإعلامي والسياسي لتلك الثورات، وبحكم التلاصق الجغرافي قدمت الحكومة التركية الدعم للاجئين السوريين الفارين من قصف النظام السوري، وقامت باستقبال أكثر من 3 ملايين ونصف مليون لاجئ سوري.

وعند حدوث انقلاب عسكري في مصر علي نظام الرئيس مرسي منتصف عام 2013، هاجم أردوغان الانقلاب العسكري بشدة، الأمر الذي اعتبره الغرب تغريدا خارج السرب، ومحاولة للاستقلال السياسي بعيدا عن النفوذ الغربي.

وردا علي مواقف أردوغان من رفضه الانقلاب العسكري في مصر ودعمه للحكومة الإسلامية المنتخبة من قبل الشعب المصري، قام الغرب بدعم التنظيمات الإرهابية في الشمال السوري، تمهيدا لإنشاء دولة انفصالية موازية للحدود التركية، بالتوازي مع خلق حالة من العداء تجاه الدولة التركية ومحاولة دعم بعض الحركات الإرهابية التي تعمل في الداخل التركي مثل تنظيم فتح الله غولن، في تهديد صريح للدولة التركية.

أردوغان وأوراق الضغط

حرص أردوغان على صناعة أوراق ضغط سياسية ضد الغرب من أجل إيقافهم عن دعم التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم غولن أو البي كا كا، وكان من أهم تلك الأوراق تسريع المباحثات مع روسيا في مجال نقل الغاز الروسي لتركيا ومن ثم لأوروبا، حيث ترفض أمريكا استكمال روسيا لسلسة الأنابيب التي تغذي شرق وشمال ووسط أوروبا بالغاز.

وبعد الانقلاب العسكري الذي أفشله شعب وحكومة تركيا في منتصف 2016، تباطأت دول اوروبا في التنديد بالمحاولة الانقلابية أملا في نجاحها، كما رفضت دول مثل أمريكا واليونان تسليم العناصر المشاركة والمدبرة  للانقلاب، الأمر الذي قابله أردوغان بتحذير الغرب من أن إيواءهم للعناصر الانقلابية سيتم الرد عليه بطريقة مناسبة.

مرور الغاز الروسي والأذري عبر تركيا

بعد فشل الانقلاب بثلاثة أشهر، قام أردوغان في تشرين الأول/ أكتوبر 2016 بافتتاح مؤتمر الطاقة بإسطنبول، والذي حضره الرئيس الروسي بوتين ورئيس أذربيجان إلهام علييف.

كشف المؤتمر النقاب عن الرد السياسي لأردوغان على الدعم الغربي للانقلابيين، حيث تم التوقيع علي إنشاء خط غاز السيل التركي بسعة 31.5 مليار متر مكعب الذي ينقل الغاز الروسي لتركيا وشرق أوروبا، ليكون بديلا عن السيل الجنوبي الذي كانت تعتزم روسيا إمداده لأوروبا، والذي عرقلته المفوضية الأوروبية بذريعة خرقه لقوانين أمن الطاقة الأوروبي، كإجراء عقابي لروسيا بسبب ضم شبه جزيرة القرم عام 2014.

كما تم افتتاح خط غاز تاناب عام 2018 والذي ينقل الغاز الأذري من بحر قزوين إلي شرق أوروبا عبر تركيا، في خطوة تجعل من تركيا عقدة لمرور أنابيب الغاز الآسيوية لأوروبا، والذي من شأنه اعتبار تركيا لاعبا سياسيا بارزا على الساحة الدولية.

تحالف تركيا مع إيران وروسيا

يعد التحالف التركي الروسي الإيراني في عدة ملفات أهمها الشمال السوري، ردا علي الدعم الغربي الفج للتنظيمات الإرهابية في الداخل التركي والشمال السوري ومحاولة إنشاء دويلة انفصالية، كما يأتي التحالف في إطار سعي تركيا لإيجاد توازن للقوى في المنطقة وحماية المصالح المشتركة لكل من الأتراك والروس والإيرانيين، ومنعا من انفراد الغرب بكل دولة على حده.

طريق الحرير الحديدي

قبل إطلاق الصين لمشروع طريق الحرير الجديد عام 2012، والذي يهدف لنقل صادراتها لأوروبا عبر طرق برية وسكك حديدية، بدأت حكومة العدالة والتنمية مع استلامها للسلطة أواخر عام 2002 في استكمال المباحثات مع أذربيجان وجورجيا، والتي تهدف لتفعيل مشروع سكة حديد تربط بين تركيا وبحر قزوين، وتوجت تلك المباحثات بالبدء في المشروع، وتم افتتاح مشروع  خط سكة حديد باكو تبليسي قارص عام 2017، وبذلك يمكن نقل البضائع من كازاخستان (الملاصقة للصين) والمطلة على بحر قزوين عن طريق عبارات، ثم تنقل بالسكك الحديدية إلى شرق تركيا، ومنها إلى شبكة الطرق والسكك الحددية التركية التي تربطها بأوروبا، حيث يعتبر ذلك الطريق أقصر طريق لنقل بضائع وسط آسيا لأوروبا، كما يساهم ذلك الخط في توصيل البضائع الصينية إلى أوروبا في غضون 15 يوما بدلا 40 يوما.

قناة إسطنبول الجديدة

في ظل تزاحم الملاحة في مضيق البسفور، أعلن أردوغان عن نيته إنشاء قناة بحرية لربط البحر الأسود ببحر مرمرة، حيث من المتوقع أن يكلف حفر القناة ستة مليارات ونصف مليار دولار، ويتوقع الانتهاء منها قبل عام 2023.

بدأت بعض دول وسط آسيا في نقل صادرتها إلى بحر قزوين، عبر خطوط سكك حديدية، مثل طاجكستان وأفغانستان وتركمنستان وأوزباكستان وكازاخستان، ثم نقلها بعبارات إلى ميناء باكو بأذربيجان ومنه إلى موانئ جورجيا وروسيا على البحر الأسود ومن ثم يتم النقل البحري إلى أوروبا وشمال أفريقيا عبر مضيق البسفور، وعبر قناة إسطنبول مستقبلا، ويتوقع أن تدر القناة دخلا سنويا بمقدار 8 مليارات دولار.

افتتاح مطار إسطنبول

افتتح أردوغان المرحلة الأولى من مطار إسطنبول في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، بطاقة استيعابية 90 مليون مسافر سنويا، وتزيد عند اكتمال مراحله لـ150 مليون مسافر، ويمكن رفعه عند الحاجة لـ200 مليون مسافر ليصبح أكبر مطار في العالم، حيث تم افتتاحه لمواكبة زيادة معدلات السياحة التركية التي وصلت إلى 40 مليون سائح والتي قد تصل لـ50 مليون سائح خلال 5 سنوات، بالإضافة لخدمات الترانزيت التي تتميز بها إسطنبول لتوسطها قارات العالم القديم، ويقدر دخل المطار الجديد بنحو 15 مليار دولار سنويا.

غزو السوق الأفريقية والعالمية

ومن ناحية أخرى استثمر أردوغان العلاقات التاريخية للدولة العثمانية مع الدول العربية والإسلامية بطريقة جيدة، حيث بدأت تركيا عام 2017 في إنشاء منطقة اقتصادية بجيبوتي المطلة على مضيق باب المندب والذي تمر منه أكثر من خمس تجارة العالم، كما تم ربط تلك المنطقة الاقتصادية في جيبوتي بأثيوبيا بطرق برية وسكك حديدية، للاستفادة من السوق الإثيوبي الكبير وجيرانه من دول وسط أفريقيا الحبيسة في إطار سعي الحكومة التركية لفتح أسواق جديدة في شرق ووسط أفريقيا.

تركيا قوة عالمية جديدة

نشأت تاريخيا عدة دول عظمى من رحم قيادتها للتجارة العالمية وفتحها أسواقا جديدة، كما فعلت بريطانيا بعد استعمارها للهند وأمريكا الشمالية، وكما فعلت إسبانيا والبرتغال بعد استعمارهما للمكسيك وأمريكا الجنوبية، حيث ساعدت تلك التجارة في زيادة التدفقات النقدية وازدهار تلك الدول، ومن ثم زيادة النفوذ السياسي والعسكري لها تباعا.

كما ساعد استحواذ أمريكا علي أكثر من نصف التجارة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، في جعل نيويورك مركزا عالميا للتجارة، ومع صعود النمور الآسيوية في شرق آسيا في تسعينيات القرن الماضي، أصبحت سنغافورة مركزا ماليا، بسبب وقوعها علي مضيق ملقا الذي تمر منه كل تجارة شرق آسيا إلى أفريقيا وأوروبا.

وبتلك المعايير العالمية، فإن استثمار أردوغان وحكومته لموقع تركيا، في ربط الصين ووسط آسيا بأوروبا عبر سكك حديدية، ونقل الغاز من مكامنه الآسيوية عبر أراضيها لأوروبا، بالإضافة لمطار إسطنبول ومشروع قناة إسطنبول الجديدة، بجانب إعلان وزير الخزانة التركي عن خطة لتحويل إسطنبول إلى مركز مالي عالمي، يمكننا القول إن تلك الاستثمارات تفتح الطريق لبروز تركيا كقوة عالمية جديدة بعد عدة سنوات، كما أن فتح أسواق جديدة في شمال وغرب إفريقيا، وإقامة منطقة اقتصادية في جيبوتي يمهد الطريق لتركيا في أن تصبح القوة الاقتصادية الأولى في الشرق الأوسط.

تأمين المصالح التركية

الأمر الذي دفع القيادة التركية لتأمين مصالحها بإنشاء قواعد عسكرية في الصومال وقطر، بالإضافة لدراسة إنشاء قاعدة عسكرية في جزيرة سواكن السودانية على البحر الأحمر.

علي الجانب الآخر فإن صناعة قوة عظمى جديدة يقابله صعوبات وتحديات كبيرة، فهل تنجح القيادة التركية في تخطي تلك العوائق والصعوبات لتصبح إحدى القوى العظمي، أم ترضى تركيا بدورها الإقليمي الحالي، هذا ما سنعرفه في السنوات القليلة القادمة.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس