د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

أزمة تركية أميركية جديدة في طريقها إلى الانفجار وهي ستضاف إلى لائحة ملفات التوتر التي ارتفع عددها بين البلدين في الأعوام الأخيرة. إدارة الرئيس دونالد ترمب راضية منذ الأمس بتنفيذ قرارات وتوصيات الكونغرس ومجلس المندوبين الداعية لفرض عقوبات تطال التعاون في المجال العسكري والصناعي والدفاعي مع تركيا، وتجميد خطط تزويد أنقرة بمقاتلات إف – 35 وإبعادها عن المشاركة في برنامج إنتاجها، إذا ما تمسكت بصفقة صواريخ إس- 400 الروسية.

في العلن ذريعة واشنطن الأهم هي أن تركيا حلقة مهمة من حلف شمال الأطلسي، ولا يمكن لها الانفتاح العسكري على روسيا بهذا الشكل الذي يعرض مصالح وخطط الحلف للخطورة. القيادات التركية ترد قائلة إن ما دفعها نحو المر هو الأمر منه. فهم لا يريدون أن يكونوا تحت رحمة الباتريوت الذي تخلى عنهم في منتصف الطريق خلال أزمتهم مع إيران والعراق قبل سنوات وأن تركيا تريد تنويع مصادر تسلحها، وإنه إذا ما ألغت واشنطن تعهداتها في صفقة الطائرات فتركيا قادرة على البحث عن بديل آخر خصوصا وأن يد المساعد الروسية ممدودة دائما في العامين الأخيرين نحو الأتراك.

يقول وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، إن هناك محاولة تركية للبحث عن طرق فنية للجمع بين المنظومة والمقاتلة، وبالتالي توفير مسعى لتقديم ضمانات تركية لاحتواء المخاوف الأميركية من تسرب المعلومات الفنية الخاصة بالمقاتلة. لكن الجنرال جوزف دانفورد رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة يردد أن السلطتين التنفيذية والتشريعية في أميركا تجد صعوبة في القبول بفكرة وجود منظومة إس- 400 بجانب مقاتلاتنا الأكثر تطورا وهي إف- 35. التحدي التركي الأميركي في ذروته، والمسألة لن تتوقف عند مطالبة رئيس القيادة الأوروبية للجيش الأميركي، الجنرال كورتيس سكاباروتي، بضرورة عدم تسليم تركيا طائرات إف 35 إذا ما تمسكت بشراء المنظومة الروسية، فالجانب التركي يصعد هو الآخر ويلوح بخيار بحث شراء مقاتلة الجيل الخامس الروسية سوخوي 57 إذا ما حاولت واشنطن إبعادها عن شراكة تصنيع وتسويق المقاتلة إف 35".

باختصار أكثر فشلت واشنطن وأنقرة حتى الآن في إبرام صفقة موازية تتخلى بموجبها أنقرة عن منظومة "إس-400" الروسية مقابل المضي قدماً في تنفيذ التعاقد الخاص بـ “إف-35" إضافة إلى صواريخ "باتريوت" مخفضة السعر، ولم تفلح المبررات التي تبناها كل طرف في إقناع الآخر بتغيير موقفه. وهذا ما يعكس حقيقة أن التباين في التعامل مع الموضوع سينقل التوتر في العلاقات الثنائية الأمريكية - التركية إلى مستوى آخر أكثر تعقيدًا بطابع إقليمي هذه المرة.

أنقرة تدرك جيدا أنها اليوم وجها لوجه مع إدارة أميركية متصلبة متشددة لا تعطيها الكثير مما تريده في ملفات الخلاف والتباعد. لا في موضع جماعة غولن ولا في موضوع "وحدات حماية الشعب" السورية ولا في الضغط على إسرائيل لتغيير سياساتها ولا في تفهمها لأسباب استمرار التقارب والتنسيق التركي الإيراني والتركي الروسي في المنطقة. فما هي خيارات الجانبين التركي والأميركي في المرحلة المقبلة على ضوء استمرار التهديدات المتبادلة وأمام هذه التهديدات المتبادلة؟ وما الذي ستفعله تركيا في حال نفذت واشنطن تهديدها بحظر بيع طائرات "إف 35" وصواريخ "باتريوت" لتركيا؟ وهل هي مستعدة للتضحية بمنظومة تسليح أميركية متطورة مقابل صواريخ روسية؟ وربما والأهم من كل ذلك هو هل أنقرة مستعدة للدخول في أزمة مع الناتو مقابل تقاربها مع الخصم التاريخي روسيا؟

أغضب قرار أنقرة بعدم التراجع عن بصفقة شراء الصواريخ الروسية الإدارة الأميركية وأعطاها المزيد من الذرائع والحجج لمواصلة فتح النار على خيارات حكومة العدالة والتنمية وطريقة تعاملها مع الملفات الثنائية والإقليمية. أنقرة بالمقابل تسعى للتمسك بقراراتها وإعلان جهوزيتها للتصعيد متحدية واشنطن فهي تقول إن القرار بهذا الشأن لا يعود لواشنطن وحدها فهناك بالإضافة إلى أميركا سبع دول أخرى تشترك في مشروع تصنيع المقاتلة المذكورة، وهي أستراليا وبريطانيا والدنمارك وإيطاليا وكندا وهولندا والنرويج وتركيا. لكن آخر ما قالته أنقرة وأغضب واشنطن أكثر فأكثر هو رفضها الاقتراح الأميركي بشأن السيادة الإسرائيلية على الجولان وكأن مشاكلها التي لا تحصى ولا تعد مع البيت الأبيض لا تكفيها.

أن يتفق أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي من جمهوريين وديمقراطيين حول توصية البيت الأبيض بتجميد تسليم المقاتلات الحديثة إلى تركيا إذا ما تمسكت بصفقة الإس – 400 مع روسيا رسالة سياسية واضحة لأنقرة أبعد وبكثير من التحذيرات العسكرية والأمنية التي يرددها كبار الضباط في البنتاغون.

إخراج أنقرة من مجموعة تصنيع المقاتلة الشبح سيعني في أضعف الاحتمالات كارثة جديدة ليس في مسار العلاقات التركية الأميركية وحدها بل في مستقبل العلاقات التركية الغربية ككل وأهمها سيناريو تفاقم التوتر وتضاعف تشابك الملفات وتعقيدها أكثر فأكثر بين تركيا وحلف شمال الأطلسي الذي قد يترك تركيا بين خيارات استراتيجية صعبة.

أكثر ما يقلق الغرب ويزعجه هو ليس الانفتاح التركي على روسيا وحسب بل امتلاك أنقرة لمنظومة تسلح متطور غربي وشرقي في الوقت نفسه مما يتركها على مسافة تكاد تكون واحدة في علاقاتها الجيو استراتيجية الجديدة. المسألة أبعد من امتلاك تركيا للسلاح الروسي وتصل إلى تسوية أنقرة للكثير من خلافاتها ونقاط تباعدها السياسي والجغرافي مع موسكو في آسيا الوسطى والبلقان والقوقاز وحوض البحر الأسود أولا، ثم رهان ثنائي مشترك على تسوية ملفات خلاف إقليمية تعنيهما مباشرة مثل العبور في المضائق التركية والنزاع في الأذري الأرمني في قره باغ والأزمة الأوكرانية التي طال عمرها دون مخرج حل حتى الآن.

الملفت هنا هو أن قيادات البيت الأبيض والعديد من العواصم الغربية رفضت حتى الأمس القريب وبخجل هذه الصفقة التركية الروسية إلى أن اكتملت ودخلت حيز التنفيذ لتبدأ التهديد والوعيد والدعوة لفرض عقوبات مشددة على أنقرة إذا ما تمسكت بشراء هذه المنظومة من الصواريخ الروسية. هل هي مكيدة مدبرة لتركيا هدفها توريطها في الصفقة ثم إعلان الحرب عليها لإخراجها تماما من التحالف الغربي. هل لتل أبيب التي رفضت هذه العلاقة التركية الروسية دورا في المخطط خصوصا وأنه سيزيد من قوة ونفوذ تركيا الاستراتيجي العسكري الإقليمي؟

واشنطن تماطل وتناور في إعطاء أنقرة ما تريده من مقاتلات رغم العقود والتفاهمات الواضحة والتي تصل إلى أسطول جوي تركي جديد مزود ب 116 مقاتلة إف 35 خلال العقد المقبل على أبعد تقدير إلى جانب تحديث عشرات المقاتلات التركية التي ابتاعتها من أميركا في العقدين الأخيرين من الفئة نفسها. فتركيا تعرف تماما مدى حاجتها للشريك الأميركي لأن معظم مقاتلاتها ومنذ نهاية الثمانينيات هي أميركية الصنع وهي تدرك أن حوالي 270 طائرة في أسطولها الجوي تحتاج إلى صيانة وتحديث دائم وأن المفتاح هو بيد واشنطن فهل هي جاهزة للدخول في مواجهة من هذا النوع؟

مشكلة أكبر وهي أن واشنطن التي تريد أن ترمي ورقة الخلاف مع تركيا باتجاه حلف الأطلسي تبحث عن المخرج الذي يساعدها على طرح البدائل التي ترضي حلفاءها الغربيين إذا ما قررت تنفيذ تهديداتها لأنقرة التي دفعت حوالي مليار ونصف المليار حتى الآن في مشروع التعاون الثماني على تصنيع هذه المقاتلة والتي تقدم خدمات المساهمة المباشرة في تقديم قطعها وفتح أبواب عنابرها لتجميع وصيانة وتخزين هذه المقاتلات.

ترمب لا يسعى فقط للانتقام من السياسة التركية في ملفات ثنائية استراتيجية بل هو يريد تضييق الخناق على السياسة التركية الإقليمية ومحاصرتها بسحب الكثير من الأوراق التي كسبتها بعد التقارب والانفتاح الواسع على روسيا والاتفاقات التي وقعتها مع إيران لذلك فمهمة اللوبيات التركية في الولايات المتحدة الأميركية لن تكون سهلة إطلاقا فهي لن تكتفي بمحاولة إقناع البيت الأبيض بما تريده بل عليها مواجهة اللوبيات الفاعلة الأخرى التي تحرض يوميا ضد أنقرة وسياساتها الإقليمية.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس