د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

في مطلع كانون الثاني المنصرم وصل مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون على عجل إلى أنقرة على رأس وفد يضم المبعوث الأميركي إلى سوريا والتحالف الدولي للحرب على «داعش» جيمس جيفري، ورئيس هيئة الأركان المشتركة جوزيف دانفورد. فشل بولتون في انتزاع لقاء بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأن تركيا كانت غاضبة بسبب السياسات الأميركية في ملفات ثنائية واقليمية يتقدمها الملف السوري.

غادر بولتون وسط خيبة أمل لأن حجم التباعد التركي الأميركي كان يكبر بعدما عرقلت واشنطن تنفيذ اتفاق منبج وتراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن قرار سحب القوات من شرق سوريا وتمسك الإدارة الأميركية بدعم حلفائها في الميليشيات الكردية.

حاول الدبلوماسي الأميركي جيمس جيفري الدخول على خط التهدئة مرة أخرى في أواخر تموز المنصرم عبر زيارة امتصاص الغضب التركي حيال واشنطن وسياساتها في شرق الفرات فوجد أن الجانب التركي مصر على عمليته العسكرية حتى ولو كانت القوات الأميركية في مواجهتها. غادر على الفور ولخص المشهد لرئيسه الذي أمر بإرسال وفد عسكري أميركي رفيع في الأسبوع الأول من شهر آب الحالي مخول بالتفاهم مع أنقرة على خطة تحرك عسكري وأمني تشمل إعلان المنطقة الأمنة التي تريدها أنقرة وتعطيها ما تريده من ضمانات في منبج وشرق الفرات.  

وهكذا أعلن البيان الختامي التركي الأميركي بعد 3 أيام من المفاوضات في مبنى وزراة الدفاع التركية الذي يشير إلى توصل الجانبان إلى اتفاق يقضي بإنشاء مركز عمليات مشتركة في تركيا خلال أقرب وقت، لتنسيق وإدارة إنشاء المنطقة الأمنة شمالي سوريا.

هل قرر ترامب حقا إعطاء تركيا ما تريده في شرق الفرات؟ لماذا يفعل ذلك؟ هل حصل على ضمانات بحماية حليفه المحلي في "قسد" وعدم عرقلة التواجد والنفوذ الأميركي هناك؟ ما هو نوع التعهدات التي حصلت عليها واشنطن مقابل قرار التفاهم مع أنقرة في شرق سوريا؟ وهل تفاهمات أنقرة ستخدم وتسرع مسار التسوية السياسية في سوريا؟

منطقة آمنة في شمال شرق سوريا بإشراف تركي وتنسيق أميركي يقابلها على الجانب الآخر اختبار الأستانة وسوتشي الذي يتعثر بعدما قررت موسكو تحريك قوات النظام لضرب الاتفاقيات والتعهدات. ما هي الضمانات أن مصير الشرق السوري لن يكون مشابها لغربه؟

المفاجأة الاولى جاءت بعد أيام على اتفاقية أنقرة وفيما كان البعض في تركيا يتحدث عن الانجاز السياسي والأمني الكبير وانتزاع القيادة السياسية التركية ما تريده، حيث دخل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو على الخط ليقول إن واشنطن ترحب بالاتفاق الحاصل بين بلاده وتركيا بشأن إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، ويتابع في تغريدة له، إن إنشاء المنطقة الأمنة سيكون خطوة كبيرة نحو إحلال السلام والاستقرار في تلك المنطقة. لكن المفاجىء في كلام بومبيو كان حديثه عن آلية عسكرية مشتركة "تبدد مخاوفنا الأمنية المشتركة".

هناك مخاوف أميركية إذا في شرق الفرات لا نعرف حيثياتها وأسبابها هل هي خطة التحرك العسكري التركي أم القلق حول سقوط الورقة الكردية من يد واشنطن مثلا؟ هل أخذت واشنطن ما تريده من وعود بعدم التعرض لحليفها الكردي كما كان يردد بومبيو باستمرار؟ وهل يعني بومبيو هنا أن "ممر السلام" سيتحول بالنسبة لهم إلى خط فصل بين القوات يعطي وحدات "قسد" ومجموعات "مسد" ما تريده لناحية فرض حالة الأمر الواقع السياسي والدستوري الجديد في رسم خارطة سوريا المستقبلية؟

مرة أخرى يبدو أن فرص تركيا في الحصول على ما تريده في سوريا يرتبط مباشرة بقدراتها على تحقيق خطة التباعد الحقيقي أو التقارب الحقيقي بين واشنطن وموسكو في سوريا. الخيار الأسهل والأفضل هو الشق الثاني إذا ما كانت راغبة حقا في تسريع إنهاء ملف الأزمة السورية.

مطلب المنطقة الأمنة قد يعطي أنقرة ما تريده لناحية إبعاد وحدات حماية الشعب وغيرها من التنظيمات عن مناطقها الحدودية لكنه إذا لم يكن مصحوبا بتفاهمات سياسية تركية أميركية روسية تفتح الطريق أمام الحل في سوريا فلن يقدم ويغير كثيرا في مسار المشهد بل ربما قد يعقده أكثر فأكثر.

بدا الاتفاق للبعض وكأنه محاولات جديدة لكسب الوقت خصوصا إذا لم تبدأ عمليات التنفيذ والكشف عن التفاصيل الكثيرة التي تنتظر إجابات وتوضيحات. آراء أخرى تراهن على موقف روسي مفاجىء يعلن رفض اتفاقية أنقرة وهي ستفعل ذلك عبر خطاب ناري يلقيه بشار الأسد يحدد فيه موقف دمشق مما يجري بدلا من المصدر السوري المسؤول الذي ناشد المجتمع الدولي والأمم المتحدة "إدانة العدوان الأميركي التركي السافر الذي يشكل تصعيدا خطيرا وتهديدا للسلم والاستقرار في المنطقة والعالم ويطيح بكل الجهود لإيجاد مخرج للأزمة في سورية". ما الذي سيقوله ويفعله الكرملين مهم أيضا. عذرا نسينا إيران والعواصم العربية الفاعلة في الملف السوري.

لاتفاق يكرس تقسيم شرق الفرات وشمال شرق سوريا إلى 3 مناطق أمنية تتداخل وتنفصل حسب المصالح والنفوذ بين أنقرة وواشنطن. الثمن الأول للصفقة التركية الأميركية قد يكون التعهد الأميركي بأن "وحدات حماية الشعب" ستقطع علاقتها مع "العمال الكردستاني" وتبدل من مواقفها وطروحاتها وشعاراتها مثلا. واشنطن تردد أن المسار سيكون على مراحل ويحتاج إلى نفس طويل بأكثر من اتجاه سياسي وأمني وميداني وأن النقطة الأخيرة قد يتم حسمها خلال الزيارة المرتقبة للرئيس الأميركي ترامب إلى تركيا قبل نهاية هذا العام.

المخاوف التركية قد تتحول إلى كوابيس إذا ما لقي اتفاق أنقرة مصير اتفاق منبج وتحولت المنطقة الأمنة إلى منطقة عازلة تحمي مجموعات "وحدات حماية الشعب" وتحصنها سياسيا وعسكريا في عمق شرق سوريا وفشلت أنقرة في إقناع موسكو بدعم التفاهمات التركية الأميركية ومسارها الهادف لتسوية سياسية في سوريا في إطار آلية ثلاثية جديدة. 

خيبة أمل دمشق كبيرة فمجموعات "قسد" تحركت نحوها كلما شعرت بحجم الضغوطات العسكرية التركية في "درع الفرات" و"غصن الزيتون" وعملية تل رفعت لكنها محاولة سرعان ما فشلت لأن واشنطن عارضتها.

دمشق تنتقد المواقف والقرارات التركية والأميركية لكنها لا بد أن تقول شيئا ما لموسكو ايضا خصوصا اذا لم تعارض او تعرقل هذه الاتفاقية حول المنطقة الأمنة.

الهدف هو إرضاء اللاعبين المحليين وتبديد مخاوفهم باستثناء النظام إذا ما افترضنا أن النفوذ الايراني هو خارج هذه البقعة الجغرافية. العقبة تبقى روسيا وما ستقوله وتفعله.

مشكلة علماء الآثار والغصة الكبيرة في نفوسهم أن غالبيتهم تفارق الحياة دون أن ترى نتائج ما كانت تبحث عنه.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس