د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

قبل أيّام صرّح وزير الخارجيّة التّونسي الطّيب البكّوش بتصريحات تتّهم تركيا بتسهيل عبور إرهابيين ومقاتلين تونسيين للقتال في سوريا مع الجماعات المسلحة هناك. تركيا استدعت السّفير التونسي لديها وطلبت التّوضيح بخصوص هذه التصريحات. ورغم تفهم الحُكومة التّركية وتطويق الموضوع في دائرة ضيقة إلا أنّ الوزير خاض مرّة أخرى في الموضوع نفسه في حوار تلفزي مع القناة الوطنية الأولى وقال إنّ تركيا تضع خانة "للجهاد" في استمارة طلب التأشيرة، وأنه بعد تنبيهه للحكومة التّركية تمّ إزالة تلك الخانة.

تصريحات الوزير التّونسي تنطوي على معلومات خاطئة تماما، إذ ليس من المعقول أن تقبل دولة كبيرة مثل تركيا أن تجعل ضمن أهداف القدوم إلى أراضيها هدف "الجهاد" ثم تخصّص له خانةً في استمارة طلب التأشيرة في الوقت الذي يعتبر تنظيم "الدّولة الإسلامية" خطرًا يهدّد أراضيها، فتركيا في عرفه دولة مرتدّة كافرة يجب قتالها وتغيير الحكم فيها.

أمّا الأمر الثاني، والذي يثير الاستغراب فعلا فهو القول بأنّ تركيا تشترط من التّونسيين تأشيرة دخول إلى أراضيها. فالتّونسيون يعرفون جيّدا، بحكم أنّ تركيا وجهة سياحيّة وتجارية مفضلة لديهم أنه لا توجد تأشيرة أصلاً بين البلدين، وهناك اتفاقية موقعة بين البلدين في زمن الرّئيس الراحل الحبيب بورقيبة تم بموجبها إلغاء التأشيرة بين تونس وتركيا، وقبل مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002 كانت تونس من بين الدّول العربية القليلة التي يتمتّع مواطنوها بهذه الميزة. والتّونسيّون يحظون في تركيا باحترام كبير، سواء من قبل الجهات الرّسمية أو من قبل الشّعب التّركي، ويرجع  هذا الاحترام إلى عدة أسباب أهمها:

كانت تونس زمن الحكم العثماني تتمتع بحكم شبه ذاتي، ووُلاّتها كان يتم اختيارهم من بين الأهالي وبطريق الوراثة. وبالتالي لم يكن الحاكم تركيّا مفروًضا عليهم من مركز الدّولة في اسطنبول. والشّعب التونسي لم يدخل في صدام مع السّلطات المركزيّة مثلما ما حدث في سوريا والعراق وبعض مناطق شبه الجزيرة العربيّة فبقيت العلاقات تتميّز بالصفاء والودّ حتى خروجهم من البلاد التونسية عام 1881م على إثر الغزو الفرنسي لها. 

الدّور الكبير الذي لعبه العلماء والمفكّرون التّونسيون الذين أقاموا في إسطنبول منذ وقت مبكّر أو الذين كانوا يترددون على إسطنبول على فترات متقطعة للتعليم وإنارة الطلاب فيها مثل الشيخ محمد المثنّى وإسماعيل الصفايحي وصالح الشّريف ومحمد بيرم الخامس والسياسي والمصلح الكبير خير الدّين التّونسي وغيرهم كثير.

الدّور الذي قام به التّونسيون في معاضدة الدّولة العثمانية والقتال إلى جانبها في حروبها مع الأعداء وأهمّها حرب القِرم التي شارك فيها التّونسيون بحوالي 18 ألف جندي واستشهد منهم عدد كبير، بالإضافة إلى ما قدموه من مساعدات ومالية.

أنّ هناك تشابهًا كبيرًا بين البلدين في تجربة التحديث التي خاضها كل من مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة سنة 1924م وبين الحبيب بورقيبة الذي يعدّ مؤسس الجمهورية التونسية، ثم إن بورقيبة تأثر بأتاتورك تاثرًا كبيرًا وكان يعتبره الأب الرّوحي له، وحذا حذوه في كثير من إجراءات التحديث التي قام بها في البلاد.

 الاعتدال الذي ميز المدرسة التّونسية في فهم الإسلام، والذي كان لجامع الزيتونة دور بارز فيه، وهو يقترب من الفهم التّركي المعتدل للإسلام، فبالرّغم من كثرة الانقلابات العسكرية التي حدثت في تركيا، وآخرها الانقلاب على حكومة المرحوم نجم الدين أربكان سنة 1997م حافظ الشّعب التّركي على رباطة جأشه وعلى هدوئه، ولم يُواجه هذه الانقلابات بحركات متطرّفة أو ثورات مسلّحة كما يحدث في كثير من البلدان العربية. ولا نكاد نسمع عن حركات عنف تَنسب نفسها للإسلام تتبنّى أعمال عنف قي تركيا.

ومن الطّريف أن العلمين التركي والتونسي على قدر كبير من التشابه حتّى لا يكاد المرء يتبين الفرق بينهما إلا بصعوبة.

كل هذا وغيره جعل العلاقات بين تركيا وتونس على قدر كبير من القوة والمتانة. وبالرغم من التحولات الكبيرة والتقلبات على السّاحة التّونسية عبر تاريخها المعاصر سواء في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة أو في عهد الرئيس المخلوع بن علي أو الحكومات التي جاءت بعد الثّورة فإنّ هذه العلاقات بقيت قوية وتزداد متانة مع مرور الوقت.

ما صدر في الأونة الأخيرة من تصريحات  من قبل وزير الخارجية التّونسي يعتبر نشازًا في هذه العلاقات، وانحرافًا شديدًا يُسيء إلى سمعة تونس ويسيء إلى ديبلوماسيتها، ويشوه الوجه النّاصح لتونس لدى الشعب التركي الشّقيق. ويعتبر إنكارًا للجميل الذي قدّمه الأتراك للشّعب التونسي خاصة بعد الثورة، فقد دعمت تركيا الثّورة التّونسية وأشادت بها وقدمت لتونس مساعدات ماليّة كبيرة سواء في شكل هبات أو في شكل قروض ميسرة، كما قدّمت مساعدات أخرى في شكل آليات للبلديات وآليات فلاحيّة متنوّعة، كما قبلت في جامعاتها عشرات الطّلاب التونسيين الذين يدرسون على حساب الحكومة التّركية، ويتّمتعون بميزات قد لا تتوفّر لهم في بلادهم مثل الدّراسة المجانية ومنحة ماليّة مجزية والتنقل المجاني والضّمان الصّحي.

من الضّروري للسّياسيين في تونس، وعلى رأسهم من في وزارة الخارجية من مسؤولين أن يزنُوا تصريحات جيدًا قبل أن يخرجُوها للعلن وأن يُراعوا جيّدا هذا العمق في العلاقات بين البلدين، وأن ينأوا بأنفسهم تمامًا عن اتّخاذ مواقف تفوح منها الإيديولوجيا، فهذا لن يخدم المصالح التّونسية، وإذا تواصلت هذه الانحرافات وهذه الأخطاء فلن يبقى لتونس صديق، وسوف ينفض من حولها كل من وقف مع شعبها في أصعب الأيام وأقسى الأزمات.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس