د. الــزبـــيــر خــلف الله  - خاص ترك برس

المتتبع لحملة الانتخابات التركية التي تجري اليوم الأحد 7 حزيران 2015 في تركيا يلاحظ أن هناك اهتماما إقليميا ودوليا بهذه الانتخابات، وتكاد تكون كل الصحف العالمية تتحدث عن هذه الانتخابات والنتائج المرتقبة.  وفي الحقيقة هذا الاهتمام يعكس أهمية تركيا في المرحلة الراهنة والدور الأساسي الذي باتت تلعبه في المنطقة وفي العالم.

 المرحلة التي وصلت إليها تركيا والتجربة التركية بشكل عام خلقت لها أصدقاء إقليميين ودوليين معجبيبن بهذه النجاحات وبالنموذج التركي بقيادة رجب طيب أردوغان الذي استطاع مع فريقه في حزب العدالة والتنمية أن ينهض بتركيا ويخرجها من أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية ظلت تتخبط فيها تركيا عقودا طويلة . ويتزعم هذا الشق بعض الحركات الإسلامية والوطنية في مصر وتونس وسوريا واليمن و بعض الدول التي تقف الى مشروع الربيع العربي مثل تونس أيام حكم النهضة و قطر والسعودية في عهد الملك سلمان.  

في المقابل نجد أن نجاحات التجربة التركية وتقدم تركيا خلق لها أعداء إقليميين ودوليين أيضا يرون في تركيا دولة تهدد مصالحهم في المنطقة وفي العالم، وتتمد على حساب نفوذهم في العديد من المواقع، وتحمل في عمقها مشروعا حضاريا قد يكون في المستقبل الكبير محل تهديد مباشر إلى هذه القوى المعادية. ويتزعم هذا الشق دول الغرب وبعض الدول الإقليمية وبعض الحركات اليسارية الاستئصالية والعلمانية المتطرفة في مصر وفي تونس وفي سوريا وفي الإمارات وغيرها.  

الانتخابات التركية في سياقها التاريخي

علينا أن نقرأ أهمية هذه الانتخابات التركية لدى الرأي العام الدولي ضمن سياق المحطات الانتخابات السابقة على امتداد أكثر من 60 عاما، وكيف كانت كل القوى الإقليمية والدولية تنظر إليها، وتتفاعل معها، وكيفية ردود الفعل تجاهها. جدير بالذكر أنه على مدار عقود طويلة لم يكن الرأي العام الإقليمي والدولي يولي أي أهمية كبرى لنتائج الانتخابات البرلمانية التركية لطبيعة الوضع السياسي المتأزم الذي كانت تعيشه تركيا، ولوجود أزمة هيكيلية في بنية النظام السياسي الذي كانت تقوده عدة أحزاب علمانية ويسارية لم تنجح أبدا في إخراج تركيا من أزمتها الاقتصادية والسياسية، ولكون الغرب كان مطمئنا من عدم وجود أي مفاجأة قد تهدد مصالحه في تركيا وفي المنطقة وذلك لانعدام بديل سياسي حقيقي يطمح في النهوض بتركيا .

ولم تكن الانتخابات التركية في الماضي سوى مسرحية مكشوفة يتم القيام بها لتزيين التجربة الديمقراطية التي عرفت انكسارات كبيرة منذ فوز عدنان مندريس في انتخابات 1950 ثم انقلب عليه الجيش بتواطؤ محلي وإقليمي ودولي.  ورغم أن انتخابات 1950 لم تكن مفاجأة كبرى أو مخيفة بالنسبة إلى  الغرب واللاعبين الإقليميين إلا أن الشيء الذي أخافهم هو حزمة الإصلاحات التي أقدم عليها عدنان مندريس الذي سعى جاهدا الى إعادة تركيا الى محيطها الاسلامي، ووقوف تركيا الى جانب حرب التحرير الجزائرية ، وإصراره على أن يجعل من تركيا لاعبا مهما في المنطقة وإعادة دورها القيادي الإقليمي والدولي.

هذا الوضع دفع بالغرب إلى التحالف مع المؤسسة العسكرية التركية لإعادة ضبط إيقاع المسار الديمقراطي في تركيا بشكل يجعل من هذه الأخيرة رهينة قرارات خارجية متحالفة مع لوبيات محلية متنفذة لا يهمها سوى مصالحها ومنافعها فقط. بل إنهم سعوا الى التخلص من الرئيس التركي طورغت أوزال رائد تجربة الانفتاح الاقتصادي التركي وقتل أوزال سنة 1991 في ظروف غامضة أثبتت التحقيقات فيما بعد أنه توفي مسموما . ومنذ ذلك الزمن تحولت المناسبات الانتخابية في تركيا إلى مجرد تنفيس عن حالات الاحتقان الموجود داخل الشارع التركي وامتصاص للغضب حتى لا يقع أي انفجار قد يؤدي إلى أي تغيير جذري في البلد .

لكن الشيء الذي جعل الرأي العام الدولي  ينتبه ويفاجأ بنتائج الانتخابات التي وقعت سنة 1996 هو فوز حزب الرفاه الإسلامي بقيادة المرحوم نجم الدين أربكان الذي شكل حكومة ائتلافية، وانتهج خطابا يوحي برغبة هذا الحزب في الإتجاه بتركيا نحو الاستقلالية، والتقدم والخروج من التبعية الغربية للعب دور ريادي في المنطقة وفي العالم. وقد كانت مبادرة أربكان في تأسيس مجموعة الثمانية الاقتصادية القطرة التي أفاضت الكأس في الانقلاب على المسار الديمقراطي في 28 شباط 1997، وإجبار نجم الدين أربكان على الاستقلالية، وإعادة تركيا الى مربع التبعية من جديد وإخضاعها إلى الأجندات الداخلية والدولية.

فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2002 والصدمة الشاملة:

جاءت الانتخابات التركية سنة 2002 في وضع محلي وإقليمي ودولي متأزم ، فعلى المستوى المحلي كانت تركيا تعيش أزمة اقتصادية عميقة تهدد بإفلاس الدولة وانهيارها، وفي وضع اجتماعي جد متأزم، أما على المستوى الإقليمي فكانت منطقة الشرق الأوسط تعيش حالة توتر وتصدع للنظام الاقليمي العربي بعد حرب الخليج الثانية، وفرض الحصار على العراق، أما على المستوى الدولي فقد شهدت سنة 2002 هجمات الحادي عشر من سبتمبر على مركز التجارة العالمي بالولايات المتحدة التي أعلنت حربها على الارهاب وقوى الشر كما سماها جورش بوش الابن في ذلك الوقت.

كل هذه الظروف المحلية والإقليمية والدولية انعكست بشكل كبير على نتائج الانتخابات التركية سنة 2002، وفوز حزب العدالة والتنمية بقيادة الإسلامي رجب طيب أردوغان والذي استطاع أن يقدم نفسه على أنه جزء من المنظومة الغربية وليس شاذا عنها. وأن تركيا باعتبارها عضوا في الحلف الأطلسي تعد خط الدفاع الأمامي للغرب أمام التهديدات الارهابية القادمة من منطقة الشرق الاوسط والأدنى. 

 وقد نتساءل لماذا سكت الغرب عن نتائج الانتخابات التركية سنة 2002 رغم تفاجؤه بفوز حزب تأسس قبل سنة واحدة وزعيمه محسوب على التيار الاسلامي؟ علينا أن نذكر أن سنة 2002 وصلت فيها تركيا الى حالة إفلاس سياسي وحزبي حقيقي دفع بشرائح كبيرة من الشعب التركي إلى البحث عن بديل ثالث للأحزاب التقليدية التي أوصلت تركيا الى نفق مجهول، وأدخلتها في أتون أزمة اقتصادية بنيوية، وعجز هذه الأحزاب على طرح رؤية بديلة مقنعة. فكان حزب العدالة والتنمية بأطروحاته الجديدة وخطابه الإصلاحي المعتدل هو الأمل الذي انتخبه الأتراك حتى ينقذوا بلدهم من الإفلاس والانهيار الشامل.

أما على مستوى القوى الغربية فقد كانت الولايات المتحدة تنظر إلى تركيا على أنها أهم دولة في المنطقة يمكن التعامل معها واستخدامها في حربها ضد العراق وإيران وضد التمدد الروسي وضد الإرهاب في المنطقة. لذلك اتهجت إلى سياسة الاستيعاب والاحتواء، وحاولت أن تقف إلى جانب حزب العدالة والتنمية في مشروعه الإصلاحي من أجل إخراج تركيا من أزمتها الشاملة، الأمر الذي قد يسهل للغرب أن يعيد هيمنته على منطقة الشرق الأوسط من جديد ويحتل العراق. لقد كان فوز حزب العدالة السم الذي قبل الغرب بتجرعه، ولكن مع التدخل لضبط إيقاع المسار الديمقراطي الجديد في مرحلة حزب العدالة والتنمية.

حسابات الغرب الخاطئة وانقلاب السحر على الساحر:

لقد كان خطاب أردوغان وحزب العدالة والتنمية في البداية مطمئنا للغرب حينما قدم أردوغان نفسه على أنه يعمل على انضمام تركيا إلى الاتحاد الاوروبي، ويريد القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وفق مقاييس الاتحاد الاوروبي. ويمكن القول بصراحة أن أردوغان نجح في خديعة الغرب من خلال أسلوب البراغماتية وسياسة التمسكن من أجل التمكن كما يقال في المثل العربي.

لقد حاول الغرب أن يختبر نية حزب العدالة والتنمية حينما طلبوا من أردوغان استخدام قاعدة انجرليك العسكرية لضرب العراق سنة 2003 ، وكان الجواب من قبل أردوغان وتركيا بالرفض، وبين أردوغان أن الموافقة على هذا القرار يعود إلى مجلس الشعب الذي يهيمن عليه حزب العدالة المنتخب ديمقراطيا، وفعلا صوت أغلب أعضاء البرلمان برفض الطلب الأمريكي وبحق تركيا في الحفاظ على سيادة أراضيها.

هذا الموقف الذي اتخذته تركيا يعد نقطة تحول في سياسة تركيا الداخلية ومؤشرا مهما على أن تركيا بقيادة رجب أردوغان تطمح أن تكون لاعبا إقليميا ودوليا. وقد تأكدت هذه النية في جملة الإصلاحات والنجاحات والإنجازات التي حققها حزب العدالة والتنمية خلال فترة 13 سنة، مما حولها إلى قوة كبرى في منطقة الشرق الأوسط وفي أروربا أيضا. الأمر الذي بات يزعج الغرب من هذا التحول النوعي لتركيا ورؤيتها الاستراتجية والاستقلالية خصوصا عندما قامت بتسديد كل ديونها إلى صندوق النقد الدولي الأمر الذي يجعلها في منطقة مريحة بعيدة عن أي ضغوطات إقتصادية.

لقد كانت النجاحات الاقتصادية الهائلة لتركيا ودخولها في أسواق عالمية منافسة للغرب، وكذلك جملة الانجازات الهيكلية والتقدم الصناعي على كافة المستويات والدخول في شراكات استراتيجية في العديد من مناطق العالم قد أزعج الغرب،  وجعله يعيد قراءاته وحساباته لتركيا، وينظر إليها على أنها ستكون القوة الكبرى في المنطقة وربما في العالم تنافسه على مصالحه في منطقة الشرق الأوسط الغني بالنفظ وفي افريقيا وآسيا. 

لقد أدرك الغرب أنه خدع من تركيا بقيادة أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وأنه يجب أن يتحرك من أجل إيقاف التمدد التركي عبر السعي لإسقاط حكومة حزب العدالة، وقد كانت أحداث "حديقة غيزي بارك" مظهرا من مظاهر التحرك الوقائي الغربي تجاه تركيا، وتحالفت مع عدة قوى محلية مناهضة لأردوغان وحزبه الذي طرح جملة من المشاريع العملاقة التي تشكل منافسة كبرى لبعض الدول الأوروبية خصوصا ألمانيا وأنجلترا وفرنسا وروسيا من خلال مشروع المطار الثالث باستانبول والذي سيكون سنة 2017 أكبر مطار في العالم متقدما على مطار فرنكفورت بألمانيا، أما المشروع الثاني فهو مشروع قناة استانبول التي ستكون بديلا لمضيق البوسفور، وستصبح كل السفن مجبرة على دفع رسومات عند عبورها وهو مشروع سيحول تركيا إلى أكبر دولة مستنفعة اقتصادية واستراتيجيا ومتحكمة في أهم منفذ استراتيجي للبحر الأسود.

الانتخابات البرلمانية الحالية والأمل المنشود:

ذكرنا سابقا أن الغرب بدأ ينظر إلى تركيا على أنها ستكون أكبر قوة منافسة له في منطقة الشرق الأوسط وفي العديد من المناطق في العالم، وأن خطابات أردوغان وقيادات حزب العدالة باتت تكشف عن وجهها الاسلامي ونيتها في إعادة مجد تركيا الحضاري الأمر الذياعاد للاذهان لدى دول الغرب تجربة الدولة العثمانية في القرون الماضية.

وفي الحقيقة اتضحت نية حزب العدالة والتنمية ابتداء من انتخابات سنة 2011 التي قال فيها أردوغان صراحة أن تركيا لم تعد تركيا القديمة، وأنها لن تسمح أن تكون ممرا يعبر عليه الغزاة ، وأن بلده حرة ولها سيادة، وتريد أن تكون لاعبا أسياسيا في النظام العالمي القادم، وأن تركيا لم تعد في حاجة إلى الانضمام الى الاتحاد الاوروبي الذي وصفه أردوغان في إحدى محطاته الانتخابية أن تركيا ليست مستعدة أن تنضوي إلى اتحاد مأزوم اقتصاديا، وأن انضمام تركيا إليه سيكون بمثابة عبئا عليها.  

من هنا نجد أن هذه الانتخابات التي يخوضها حزب العدالة اليوم ليست انتخابات عادية بالنسبة اليه، وإنما تعد محطة مفصلية في مسار المشروع الحضاري التركي، وتحويل تركيا إلى عملاق كبير ينافس الدول الكبار. ويبدو من خلال الشعارات التي ترفع في حملة حزب العدالة والتنمية  شعار له رمزية كبرى  مضمونه : من أجل تركيا الجديدة العظيمة والقوية. هذا الشعار يحمل في طياته رؤية وتصورا عميقا لتركيا المستقبل ، كما أنه رسالة غلى كل القوى المحلية و الإقليمية والدولية على أن تركيا تتجه إلى منافسة الكبار، وربما إلى افتكاك قيادة النظام العالمي الجديد مثلما كانت الدولة العثمانية في القرون الوسطى.

نلاحظ خلال هذه الانتخابات التي تجري اليوم هجمة كبيرة من قبل وسائل الإعلام الغربية ضد شخصية أردوغان، ووصفه بأنه السلطان الديكتاتور، واعتباره بأنه يسعى إلى ضرب التجربة الديمقراطية ويعمل على التحالف مع قوى المناهضة للديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط. لم يتجرأ الإعلام الغربي أن يذكر صراحة سبب تهجمه على أردوغان وحزب العدالة لأنه لا يريد أن يظهر الغرب وخصوصا بعض الدول الاوروبية في ثوب العاجز عن إيجاد حل لإفشال نجاحات تركيا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والاستراتيجية.

خلاصة القول لم تتوقف تدخلات الغرب في أي مناسبة انتخابية أجريت في تركيا على مدار عقود طويلة ، خصوصا تلك المحطات الانتخابات التي أجريت خلال 13 سنة من حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان وعبد الله غل وداوود أوغلو. لقد تدخلوا في انتخابات 2007، ودعموا المعارضة لكنهم فشلوا ثم تدخلوا في انتخابات 2011 وفي الانتخابات الرئاسية لكنهم فشلوا رغم أنهم دعموا كل قوى المعارضة التي تحالفت وفشلت أمام تسونامي حزب العدالة والتنمية. هذه الانتخابات في نظر صناع القرار في تركيا محطة تحول جذري في مستقبل تركيا ومشروعها الحضاري، بل باتت أملا إلى كل الشعوب وحركات التحرر التي تناضل من أجل الحرية والعدالة والنهضة الحضارية.  

عن الكاتب

د. زبير خلف الله

كاتب - المركز العربي التركي للتفكير الحضاري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس