
شعبان عبدالرحمن - خاص ترك برس
تسابِق الأخبار الزمن في نقل أحداث الصراع الدائر في أوكرانيا، ذلك البلد الذي انفرط من عقد الاتحاد السوفييتي ضمن منظومة الدول السوفييتية القديمة، لكن روسيا التي مازالت تصر على وراثة الاتحاد السوفييتي المنفك في السيطرة على دول الاتحاد القديمة؛ تأبى أن تترك تلك الدول دون محاولة يائسة للاستحواذ عليها، ويزيد من حمى محاولتها تلك اجتياح النفوذ الأمريكي لتلك الدول في صورة قواعد عسكرية واقتصادية مقابل حفنة من المساعدات أغرقت بها معظم دول المنطقة؛ وذلك في مقابل رحيل القواعد الروسية، حتى باتت روسيا منكمشة داخل حدودها تقريباً ، وتحاول اليوم العودة ولكن محاولتها مازالت في خانة الفشل .
روسيا استيقظت من غفوتها وتحاول التشبث بما بقي من نفوذها في أوكرانيا ،بعد ما باتت القواعد العسكرية الأمريكية تغرق دول آسيا الوسطى بل وتكاد تدق أبواب موسكو ؛ وذلك ما أشعل الصراع الساخن هناك مع الولايات المتحدة الأمريكية على تولية النظام التابع لأي منهما في أوكرانيا.
كان هناك رئيس تابع لموسكو، ثم حدثت مظاهرات الثورة البرتقالية ، ( ثورة شعبية اندلعت في 22 نوفمبر 2004 م واستمرت حتي 23 يناير 2005 م )، في أعقاب جولة إعادة التصويت على الانتخابات الرئاسية ، للمطالبة بوقف التدخل الروسي في شؤون البلاد، ولمحاربة الفساد المالي والإداري والسياسي .
وقد أسفرت هذه الثورة الشعبية عن انتخاب رئيس تابع لواشنطن ، ثم اشتغلت الثورة المضادة لتعيد النظام القديم؛ فانفجرت مظاهرات أخرى أعادت النظام المنتَخَب؛ فأسرعت روسيا لمحاصرة أوكرانيا وضمت إليها بالقوة شبه جزيرة "القرم " ، وسيطرت البحرية الروسية على سبع قطع بحرية أوكرانية، كما احتلت قاعدة عسكرية أوكرانية هناك، سعيا لإنهاء الوجود الأوكراني هناك وتهديد أوكرانيا في عقر دارها.
وبهذا انتقلت تبعية شبه جزيرة "القرم" من النفوذ الأوكراني إلى النفوذ الروسي، وباتت أشبه بكرة يتقاذفها المتصارعون عليها ، وهي في الحقيقة أرض إسلامية ، ظل المسلمون يشكلون غالبية سكانها لقرون، وبات أهلها كأغلبية الشعوب المسلمة في دول الانفكاك السوفييتي كالأيتام على موائد اللئام، وهكذا حال المسلمين في معظم دول الاتحاد السوفييتي السابق مثل : منطقة القوقاز (الشيشان والأنجوش.. وغيرهما)، ودول آسيا الوسطى (أذربيجان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، وقرغيزستان.. وغيرها)، لا حول لهم ولا قوة، بينما يتبادل السيطرة عليهم النفوذ الروسي الأمريكي أو كلاهما.
من أقدم الأماكن في التاريخ
وتعد شبه جزيرة القرم التي تقدر مساحتها بـ26 ألف كيلومتر مربع ويبلغ عدد سكانها حوالي مليوني نسمة؛ وفقا لإحصائيات عام 2023 بحسب مجلس الاتحاد الفيدرالي الروسي، تعد من أقدم الاماكن في التاريخ ، فقد بدأ الاستيطان البشري فيها منذ حوالي ألف عام قبل الميلاد، وكانت قبائل مختلفة ترتادها عبر التاريخ، وخاصة من المناطق الداخلية من آسيا، ويُذكر أن السيميريين أول من استوطنها، وفي القرن السابع قبل الميلاد احتل السكيثيون منطقة السهوب.
كانت تعرف باسم توريكا "Taurica" من قبل الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية، نسبة إلى قبائل التور "Taurians" إحدى القبائل السيميرية التي استوطنتها منذ عصور ما قبل التاريخ.
وكانت تسمى "تافريدا " كما حملت اسم «اق مسجد» أي «المسجد الأبيض» بلغة تتار القرم ( مسلمون ) عندما دخلها الإسلام في القرن العاشر الميلادي وذلك قبل أن يستولي عليها الروس في نهايات القرن الثامن عشر (عام 1783م.)..عاصمتها مدينة "سيمفروبول".
أما اسم "القرم" ذاته فقد أطلقه التتار على شبه الجزيرة إبان حكمهم، وهي كلمة تركية تعني "القلعة" أو "الحصن"، وقد يكون مشتقا من التضاريس الطبيعية الوعرة لشبه الجزيرة التي تشبه الحصن.
وبعد سقوط خانية القرم؛ وخضوع المنطقة لسيطرة الإمبراطورية الروسية في نهاية القرن الثامن عشر حاولت روسيا تغيير الاسم مرة أخرى إلى "توريكا"، ولكن اسم "القرم" ظل مستخدما بشكل غير رسمي.
وتتمتع شبه جزيرة القرم بموقع إستراتيجي مهم في البحر الأسود، وتمتلك مدخلا إلى مضيق البوسفور والبحر المتوسط. تقع شرق القارة الأوروبية في شمال البحر الأسود إلى الجنوب من أوكرانيا، ويحيط بها البحر الأسود من الجنوب والغرب، ومضيق كيرتش من الشرق وبحر آزوف وخليج سيفاش من الشمال الشرقي.
وتجذب الانتباه بمناظرها الخلابة وطبيعتها الفريدة من نوعها، وتزخر بثروة من المعالم التاريخية والثقافية؛ أهلتها لتكون مركز جذب سياحي محلي وعالمي في شمال البحر الأسود.
قصتها مع الإسلام
كان التتار (مسلمون ) يشكلون غالبية سكان القرم في مطلع القرن العشرين، ولكن الحروب التي شهدتها المنطقة وسياسات الحكم الشيوعي السوفييتي بقيادة جوزيف ستالين ( 18 ديسمبر 1879 م - 5 مارس 1953 م ) السكانية القائمة على النفي والتهجير (للمسلمين في الاتحاد السوفيتي السابق بصفة عامة وإحلال ذوي الأصول الروسية مكانهم ) حولت التتار إلى أقلية وذلك يدعونا الي التطرق إلى قصتها مع الإسلام .
ففي حوار اجراه معه الزميل شادي الأيوبي من أثينا يشرح "سيران عريفوف"، رئيس الهيئة التشريعية في اتحاد المنظمات الاجتماعية "الرائد" في أوكرانيا، وعضو الإدارة الدينية لمسلمي القرم قصتها مع الإسلام قائلا :
"دخل الإسلام شبه جزير القرم في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي عن طريق الرحالة والتجار المسلمين.
وتسمية "القرم" تسمية تترية تعني "القلعة"، وكانت تضم مناطق ما يسمى الآن شبه جزيرة القرم، أما تسمية التتار فهي تسمية لاحقة لا علاقة لها بالمغول التتار، وفق تفسير المؤرخ د. محمد صبحي عبد الحكيم.
وقد قامت على أراضي القرم مملكة قرمية تترية مسلمة توالى على حكمها خمسون خاناً (حاكما ) ، وقد أصبحت عام 1474م حليفاً للدولة العثمانية، واستمر هذا التحالف حتى عام 1774م (ثلاثة قرون ) بعدها ضعفت الدولة العثمانية ودخلت في حروب عديدة مع روسيا انتهت بإدخال شبه جزيرة"القرم" تحت الوصاية الروسية ، بعد أن تخلت عنها الدولة العثمانية ، وتوقيع اتفاقية "كوجك قينارجه" مع روسيا، ونصت تلك الاتفاقية على منح "القرم " استقلالاً ذاتياً عن الدولة العثمانية عام 1774م، ليبدأ الوجود الروسي لأول مرة في شبه جزيرة القرم ، ولكن الروس بقيادة الإمبراطورة "يكاتيرينا الثانية" أخلّوا بالاتفاقية، واحتلوا الجزيرة بعد عشر سنوات من توقيع تلك الاتفاقية (عام 1783م)، وأحرقوا ودمروا عاصمتها ونحو 21 ألف معلم إسلامي، بين مسجد ومدرسة وكتاب وغيرها ، تعرض معظمها للتهديم، كما تعرض أهلها المتواجدين علي أرضها للتهجير أو بمعني أوضح " للتشريد " ، بعد أن مورست ضدهم شتى أنواع العنف والتمييز، كان أعنفها على يد "ستالين" في 18 مايو 1944م، عندما قام بتهجير جميع السكان المسلمون (حوالي 300 ألف مسلم جلهم من الشيوخ والأطفال والنساء)، إلى آسيا الوسطى وسيبيريا حيث درجات الحرارة المنخفضة تحت الصفر في عربات قطار مخصصة للحيوانات، وتحت قسوة البرد القارس الذي قضى على عشرات الآلاف منهم، حتى باتوا أقلية في بلادهم ، وإمعانا في محو الهوية القرمية تمّ تغيير 80% من أسماء المدن والقرى والبلدات القرمية الأصيلة إلى أسماء روسية ، وفي نفس الوقت جرى الإمعان في تغيير التركيبة السكانية ذات الأغلبية المسلمة باستجلاب الروس والأوكرانيين للعيش في القرم بدلاً من التتار( المسلمون) الذين صودرت أراضيهم وممتلكاتهم بعيد تهجيرهم من أرضهم ، لتصبح نسبة المسلمين أقلية بعد أن كانوا أغلبية وبعد أن أفقد الحكم الشيوعي هذه البلاد لهويتها الإسلامية !
ومع بداية انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م، بدأ التتار بالعودة التدريجية إلى القرم ليجدوا أنفسهم أقلية (20% من السكان) وليجدوا بيوتهم قد سُكنت من قبل الروس، فسكن معظمهم في قرى السهول والجبال النائية االتي تفتقر إلى البنية التحتية الأساسية. "..انتهى كلام الأستاذ "سيران عريفوف".
إن قصة المسلمين في شبه جزيرة القرم تجسد محنة المسلمين عبرالتاريخ في شتى بقاع الاتحاد السوفييتي المنفك ، والتي تحاول روسيا تكرارها اليوم مع المناطق والمكونات الإسلامية الضعيفة داخلها ،كمنطقة القوقاز ، وينازعها في ذلك النفوذ الأمريكي المتنامي هناك ، وهي في نفس الوقت تحكي قصة حروب الإبادة ضد المسلمين عبر التاريخ في شتى بقاع الأرض، وما يجري اليوم في فلسطين المحتلة وكشمير وبورما وأفريقيا الوسطي وغيرها هو استمرار لنفس المسلسل، بل إن ما يجري في سورية ومصر والعراق يمثل وجهاً آخر لنفس الصورة.. لكنه ينطلق نحو نفس الهدف.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس