سعيد الحاج - ساسة بوست

بسرعة كبيرة ترك الحديث عن نتائج الانتخابات في تركيا مكانه للنقاش حول انعكاساته على مختلف الملفات الشائكة، وفي مقدمتها موضوع الدستور الجديد والنظام الرئاسي. وكما أن الموضوع مرشح ليتربع على عرش الجدال السياسي والإعلامي في تركيا، فإنه مرشح لكثير من سوء الفهم والتقييم في العالم العربي.

ينبغي أولاً، وقبل الغوص في التفاصيل، التأكيد على نقطتين محوريتين:

الأولى، أن الأمرين – الدستور الجديد والنظام الرئاسي – ليسا شيئاً واحداً، ولكنهما موضوعان منفصلان جوهراً ومترابطان إجرائياً بشكل غير مباشر وغير طردي. بمعنى أن تغيير النظام السياسي في البلاد يحتاج فعلاً إلى صياغة دستور جديد أو إلى تعديل دستوري، لكن العكس غير دقيق.

أي أن الدستور الجديد قد لا يتضمن بالضرورة تغيير النظام السياسي في البلاد، بل ربما يُترك على ما هو عليه أو حتى يسحب صلاحيات معطاة الآن لرئيس الجمهورية، هذا من الناحية النظرية على الأقل.

الثانية، أن العدالة والتنمية لا يملك فرض هذه الأجندة على الواقع السياسي التركي ولا يملك تمرير الأمر بمفرده، إلا بحبل من أحزاب المعارضة وحبل من الناس. فإقرار دستور جديد أو تعديل دستوري يحتاج إلى نسبة الثلثين من أعضاء البرلمان (367 من أصل 550) بينما يحتاج طرح الأمر على استفتاء شعبي نسبة %60 (330 نائباً) فيما حصل الحزب الحاكم – وفق النتائج غير الرسمية حتى الآن – على 317 نائباً فقط.

المفارقة أن جميع الأحزاب التركية متفقة منذ سنوات على ضرورة صياغة دستور جديد للبلاد، التي ما زالت تحكم حتى اليوم بدستور انقلاب 1980 (وضع عام 1982) بكل تناقضاته التي تعرقل آلية اتخاذ القرار بسبب تداخل عمل السلطات الثلاث، ولكنها – أي الأحزاب – اختلفت بطبيعة الحال على بعض مواد هذا الدستور، ولذلك فقد فشلت في المهمة في الفترة البرلمانية السابقة.

وأما النظام الرئاسي فيراه العدالة والتنمية ضرورة من ضرورات المرحلة القادمة وأكثر نظام سياسي يناسب القفزات السياسية والاقتصادية التي تخطط لها تركيا في السنوات القليلة القادمة، لكن لا تشاركه الأحزاب الأخرى نفس الرؤية، سيما في ظل وجود مرشح قوي وطموح للحزب مثل أردوغان (كنت قد كتبتُ عن النظام الرئاسي مقالاً تفصيلياً يمكن الرجوع له).

وكما يذكر الكثيرون، فقد كان العدالة والتنمية يعول على فوز كبير في انتخابات السابع من حزيران/يونيو الفائت وجعل فكرة تغيير النظام في البلاد إلى رئاسي ضمن أهم مواد برنامجه الانتخابي، لكنه فقد أغلبية البرلمان مما أدى لوأد الفكرة في حينها إلى حين.

أكثر من ذلك، فقد صرح داود أوغلو في أول لقاء إعلامي له بعد تلك الانتخابات أن رسالة الشعب في رفض النظام الرئاسي “الآن” قد وصلت، ولذلك فقد خلا البرنامج الانتخابي للحزب في انتخابات الإعادة من التركيز على هذه النقطة، وإن كان هذا لا يعني أن الحزب تخلى عن رؤيته، كما لا يجب إغفال أن التصريح أتى على لسان داود أوغلو، وليس أردوغان، بمعنى أنه يصعب الجزم بما إذا كانت تلك رؤية الحزب (ومن خلفه اردوغان) أم داود أوغلو فقط (كرئيس وزراء قد يفقد صلاحياته حال تغيير النظام).

الذي تغير الآن أن الحزب حصل في انتخابات الإعادة على أغلبية لم يكن يتوقعها، فضلاً عن أن الفترة الانتقالية أظهرت للعديدين – أو على الأقل أعطت البعض ذريعة ليدلل – بأن النظام البرلماني قد يفضي أحياناً لانسداد وعدم استقرار سياسيين في ظل الاستقطاب، بينما كان النظام الرئاسي كفيلاً بحل المعضلة في ظل وجود قيادة برأس واحدة للبلاد.

حسناً، كيف سيتعامل العدالة والتنمية مع الأمر، وكيف سيتجاوز افتقاره لعدد النواب اللازم للأمر؟

أولاً: لا يبدو الحزب في عجلة من أمره لموضوع الدستور الجديد، رغم أنه ملتزم بوعده للشعب بخصوصه، لكنه خصص المئة يوم الأولى لمتابعة تنفيذ الوعود الانتخابية المتعلقة بالشق الاقتصادي تحديداً، بينما سيثير موضوع الدستور على المدى المتوسط، بعد 6 أشهر أو ربما سنة.

ثانياً: لن يجعل تغيير النظام إلى رئاسي شرطاً للحوار مع الأحزاب الأخرى، بل سيقبل نقاش الأمرين – الدستور والنظام – بشكل منفصل.

ثالثاً: لن يلجأ الحزب لحيلة ضم نواب من أحزاب المعارضة ليكسب 13 نائباً يحتاجهم للوصول إلى 330 صوتاً، إذ سيخصم هذا الأمر من رصيده.

رابعاً: سيحاول العدالة والتنمية الحوار أولاً مع الشعب الجمهوري للحصول على توافق يحظى بحاضنة شعبية أكبر (يملك الحزبان معاً 451 نائباً)، وإلا سيلجأ لحوار جماعي مع الأحزاب الأربعة وربما إعادة تشكيل لجنة منهم لصياغة الدستور.

خامساً: ربما يبدو حزب الحركة القومية أقرب للعدالة والتنمية من جهة الأيديولوجيا والحاضنة الشعبية، بيد أن المشتركات مع حزب الشعوب الديمقراطي (ذي الجذور الكردية) أكبر بكثير رغم الخصومة الشديدة في الفترة الماضية، خصوصاً وأن الدستور الجديد يفترض أن يجسد المواطنة الكاملة ويرسخ الحقوق المدنية والسياسية والثقافية للأكراد، وهو ما قد يشجعهم على التعاون مع العدالة والتنمية. وينبغي هنا أن ننظر باهتمام لتصريحات صدرت عن الحزب الكردي بانفتاحه على الحوار “حول كل القضايا بما فيها النظام الرئاسي” بعد أن كان برنامجه الانتخابي قبل حزيران/اليونيو مكوناً من جملة واحدة فقط هي: “لن نجعلك رئيساً يا أردوغان”.

سادساً: تبدو التطورات داخل حزب الحركة القومية بعد الفشل الذريع وسياسات رئيسه العدمية فرصة للعدالة والتنمية، إذ قد ينشأ عنها انشقاق أو عدة تيارات وآراء داخل كتلته البرلمانية، قد يستطيع الحزب الحاكم استمالة و/أو إقناع بعضها بالتصويت بالإيجاب على مشروع الدستور الجديد، سيما وأن الاقتراع سيكون سرياً.

لكن، وبكل الأحوال، لا يغفل العدالة والتنمية ولا يمكنه أن يتجاهل رسائل السابع من حزيران/يونيو الماضي، ويدرك بطبيعة الحال أن الرأي أولاً وأخيراً للشعب (بالاستفتاء وأيضاً في الانتخابات القادمة)، وبالتالي فلا يملك وقد لا يجرؤ على طرح الأمر بهذه السرعة والجرأة والتحدي، خصوصاً وأن الأمر كان قد اعتبر من أسباب التراجع في الانتخابات السابقة بسبب التخوف الشعبي والحزبي من سيطرة أردوغان/الحزب الحاكم على الحياة السياسية في البلاد بالكامل.

والحال كذلك، فليس أمام العدالة والتنمية، إلا العودة لسياسة التدرج التي ميزت سنوات عمله الأولى، وكان أحد أهم أسباب نجاح تجربته، دون عجلة أو حرق مراحل، ودون الظهور بمظهر المستغل لاقتراع الشعب في مصلحته، بعد أن كان قد وعد بتأجيل موضوع النظام الرئاسي.

ما هو مطلوب حالياً هو معالجة القناعات المسبقة والأفهام الخاطئة وتبيان رؤية الحزب بضرورة وفوائد النظام الرئاسي، ولا يكون ذلك إلا عبر حالة حوار مجتمعي وحزبي ونخبوي حول الأمر بعيداً عن التوتر والاستقطاب وسيف الوقت وفرض الأجندات، وأعتقد أن هذا ما سيلجأ له العدالة والتنمية في الفترة المقبلة بهدوء وترو وتدرج وذكاء.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس