د. علي حسين باكير - عربي 21

يلاحظ المتابعون في الآونة الأخيرة تحوّلا في السياسة الخارجية الإماراتية لاسيما مقارنة بسياساتها خلال عهد ترامب. وإن كان هذا التحول ليس حكراً على أبو ظبي خاصة إذا ما نظرنا إليه في سياق جهود خفض التصعيد إقليمياً بعد توّلي جو بايدن الرئاسة في الولايات المتّحدة، إلاّ أنّ اللافت فيه أنّه ينطوي على إفتراق كبير عن مسار المملكة العربية السعودية. 

في العام ٢٠١٦، أنشأت الإمارات والسعودية مجلس التنسيق، وذلك كمنصّة سياسية تعمل على توحيد العمل على الأجندة الاستراتيجية المشتركة للطرفين وصولا إلى التكامل في مجالات متعددة. وقد حرصت أبو ظبي والرياض على إظهار هذا المجلس كانعكاس للرغبة المشتركة لمحمد بن سلمان ومحمد بن زايد والتفاهم بينهما للعمل على أجندة إقليمية موحّدة. ظهر ذلك بشكل جلي قبيل الأزمة الخليجية عام ٢٠١٧ حينما نسّق الطرفان خطواتهما في قطع العلاقات مع قطر وفرض الحصار عليها. 

ومع أنّ التشقّق في جدار التحالف الإماراتي ـ السعودي كان قد بدأ يظهر نهاية عهد ترامب نتيجة لعدّة قرارات إماراتية كان من بينها موقف أبو ظبي المتناقض مع الرياض في اليمن، ونأي أبو ظبي بنفسها عن اتهام إيران بالقيام بالتفجيرات التي جرت ضد ناقلات نفط قبالة سواحلها واستهداف منشآت السعودية النفطية، فإنّ العلاقة الشخصية بين محمد بن زايد ومحمد بن سلمان خفّفت من وطأة الخلافات واحتوته إلى حين. 

ويمكن اعتبار اتفاق العلا بمثابة بداية للخلافات الحقيقية بين الطرفين. عارضت أبو ظبي بشدة حينها التوصل إلى مصالحة مع الدوحة، وكانت تبني حساباتها على بقاء الحصار قائماً ضد قطر إلى أمدٍ طويل. أمّا الرياض، فقد رأت أنّ مصلحتها تتطلّب إنهاء النزاع مع الدوحة، ولذلك اتّجهت في هذا المسار دون التنسيق مع أبو ظبي أو القاهرة، ما اضطر الإمارات ومصر إلى الموافقة على المصالحة كأمر واقع. الامتعاض لدى الدولتين كان واضحاً، فالقنوات الإماراتية تجاهلت الاتفاق تماماً، أمّا السيسي فأرسل وزير خارجيته إلى العلا بدلاً من أن يحضر شخصياً.

ما إن دشّن الاتفاق عهداً جديداً من العلاقة بين الرياض والدوحة، حتى بدا أنّ التحالف الثنائي السعودي ـ الإماراتي لم يعد قائماً. وبموازاة ذلك، ظهر الخلاف في الأولويات والتحالفات والسياسات بين كل من السعودية والإمارات ومصر. فعلى سبيل المثال، انفتحت الرياض على سلطنة عُمان بشكل غير مسبوق، فيما اتّجهت القاهرة إلى إصلاح علاقاتها سريعاً مع الدوحة، تبع ذلك محاولات تقارب بين القاهرة وأنقرة. وفي الاصطفافات الجديدة هذه، بدا أنّ الإمارات وحيدة ومتأخرة وشبه معزولة، علاقاتها مع إسرائيل لم تنفعها كثيراً مع مجيء إدارة أمريكية جديدة. 

لكن سرعان ما تبّدّل الوضع، وانفتحت الإمارات بشكل سريع وكبير على كل من تركيا وإيران. وعبّرت أبو ظبي عن رغبتها في لعب دور أكبر في الملف الأفغاني، وأكّدت أنّها تريد أن تنسج علاقات مع جميع البلدان، وأنّها تستطيع أن تلعب أدواراً تعتقد الإدارة الأمريكية أنّ الإمارات غير قادرة على لعبها أو غير مناسبة للعبها. ويرى البعض أنّ التوجه الإماراتي إلى تركيا وإيران يأتي نكاية بالسعودية وكرد فعل على قرار الرياض المضي قدماً في اتفاق العلا بالرغم من معارضتها إياه، علاوةً على عدم التنسيق بشأنه. 

لكن بغض النظر عن الاجتهادات الخاصة بهذا التفسير، تبدو السعودية الآن في نفس الوضع الذي كانت فيه الإمارات قبل عدّة أشهر، مع فارق أنّ الرياض لا تبدي أي رد فعل، ولا يبدو أنّها تمتلك استراتيجية أو رؤية واضحة إزاء الخطوة التالية. فجميع دولة المنطقة منفتحة الآن على بعضها البعض بأشكال مختلفة من العلاقات، أمّا السعودية، فباستثناء الخطوة الإيجابية التي اتخذتها إزاء إصلاح علاقاتها مع الدوحة، ليس هناك أي مبادرة جادة تجاه أي من القوى الإقليمية في المنطقة.
 
خيارات الرياض نظرياً إمّا حل الخلافات العميقة بينها وبين إيران، وإمّا إصلاح علاقاتها مع تركيا، وإما التطبيع مع إسرائيل. وبالرغم من انخراط الرياض في مباحثات مع طهران بوساطة عراقية منذ فترة، إلاّ أنّ إصلاح العلاقة بين الطرفين بشكل جذري تبدو بعيدة المنال حالياً سيما في ظل امتناع طهران عن تقديم أي تنازلات في اليمن أو سوريا أو لبنان أو العراق أو غيرها من الملفات الإشكالية مع الرياض. 

أمّا التطبيع مع إسرائيل، فعدا عن الأضرار الهائلة التي ستلحق بالسعودية وقيادتها جرّاء مثل هذه الخطوة، فإنّ تطبيعاً سعودياً مع تل أبيب غير مفيد لناحية بناء نفوذ داخل واشنطن في ظل الإدارة الأمريكية الحالية. وعليه، لا توجد أي مكاسب استراتيجية من مثل هذه الخطوة. يبقى خيار الرياض الأخير إصلاح علاقاتها مع تركيا. ومع أنّ هذا المسار كان قد شهد تقدّماً قبل انطلاق جهود التقارب المصرية ـ التركية، والإماراتية ـ التركية، إلاّ أنّه توقف في منتصف الأخير بسبب موقف ولي العهد السعودي الشخصي غير الراغب على ما يبدو في إصلاح العلاقة مع تركيا بالرغم من توافر الإرادة والرغبة التركية في إصلاح العلاقة. 

امتناع الرياض عن إصلاح علاقاتها مع تركيا لن يضر تركيا بقدر ما سيضر السعودية في ظل المعطيات الحالية، لاسيما إذا ما اتجه مسار التقارب بين القاهرة ـ أنقرة حتى النهاية في ظل التطبيع الحاصل بين الإمارات وتركيا وإمكانية حصول تطبيع مشابه للعلاقة مع بين تركيا وإسرائيل. في مثل هذه المعادلة، تبدو السعودية الحلقة الأضعف واللاعب الأكثر عزلة في الإقليم. 

وإذا ما افترضنا جدلاً أنّ الرياض لا تريد أن تجري أي خرق في الخيارات المذكورة أعلاه، يبقى لها أن تراهن على تغييرات كبرى نتيجة لانتخابات تركيا المنتظرة في ٢٠٢٣ والولايات المتّحدة عام ٢٠٢٤، لكن السكون بانتظار حصول تغييرات هو بمثابة مقامرة غير محمودة العواقب، إذ أنّ هذه التغييرات قد لا تأتي بجديد، لكن الأهم أنّه لا يزال هناك الكثير من الوقت بانتظارها، وقد تخسر الرياض الكثير حتى حينه.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس