ترك برس

استعرض رئيس تحرير صحيفة المصريون جمال سلطان، في منشور موسع عبر منصة إكس، تقييما حول الكتابات التي تنتقد موقف تركيا من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الفلسطيني.

وقال سلطان إن "بعض تلك الكتابات تدرك أنها من باب العتب على "الأخ الكبير" بوصف تركيا بلدا إسلاميا ناهضا وقويا ويملك قدرات عسكرية كبيرة، فالعشم معه كبير، غير أن أغلب الكتابات تدرك ببعض التأمل أنها مدفوعة بحسابات إقليمية انتهازية، تعمل على أكثر من هدف سياسي.

وأوضح من بين تلك الأسباب، ضرب التقارب التركي العربي الذي بدأ يستعيد زخمه مؤخرا، وأيضا تشويه سمعة التجربة التركية في حقبة الرئيس رجب طيب اردوغان، خاصة وأن النموذج الذي حققه، والذي يمزج الديمقراطية بالهوية المحافظة بالتنمية الشاملة، في صيغة أصبحت مقلقة لنماذج سياسية فاشلة في المنطقة، فضلا عن حسابات النفوذ الإقليمي خاصة من الدوائر الإيرانية وملحقاتها في الشام والعراق ولبنان واليمن والخليج العربي، التي تنظر إلى تركيا الفتية اليوم باعتبارها رأس حربة الإسلام السني الذي يعوق تمددها وهيمنتها في المنطقة.

وذكر أن أكثر الحديث يدور حول عدم تدخل تركيا عسكريا في غزة، أو عدم إرسالها أسلحة وطائرات مسيرة من التي أرسلتها إلى ليبيا وأذربيجان، وهو حديث عاطفي إن أحسنا الظن، وتضليلي إن وسعنا النظرة لخلفيات من يطرحونه، فلا يمكن لتركيا ولا غير تركيا أن تتدخل عسكريا في غزة اليوم، وفق الحسابات الدولية القائمة، حتى لو كانت دولة عظمى مثل الصين أو روسيا، فهما لا يملكان إلا الإدانة في مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة ، لكنهما لا يستطيعان إدخال قصاصة ورق إلى غزة إلا بتنسيق مع الولايات المتحدة مباشرة، ورسالة واشنطن ولندن وحلف الناتو ـ وتركيا عضو في الحلف وإن كان غير مرضي عنه ـ كانت واضحة من اليوم التالي 8 أكتوبر، لن نسمح بأي تدخل "الصياغة المخففة هي : لن نسمح بتوسع الحرب"، ووزير الخارجية ووزير الدفاع الأمريكيين ذهابا وإيابا في المنطقة يكررون الرسالة، والكل وصلتهم، ولا توجد دولة في العالم اليوم يمكنها أن تخوض معركة مفتوحة مع الولايات المتحدة وحلفائها، حتى إيران التي تملأ الدنيا جعجعة عن فلسطين وغزة، لم تطلق حتى الآن رصاصة واحدة أو صاروخا، من أجل غزة، هي فقط تلاعب تل أبيب بأذرعها في المنطقة كأوراق على طاولة المحاصصة في النفوذ الإقليمي، لكنها هي لا تتدخل نهائيا، بل تتبرأ من أي "تهمة" تتعلق بمشاركتها في أي عملية، كما تبرأت مرارا وتكرارا من علمها بعملية 7 أكتوبر.

وأضاف: يدرك الرئيس التركي جيداـ ويدرك آخرون ـ أن هناك رغبة محمومة لتوريط تركيا في حرب إقليمية كبرى، لإنهاك مشروعها النهضوي، وتدمير تجربتها بالكامل، ثم تمزيق الدولة بناء على ذلك، حاولوا توريطها في حرب مع روسيا بعد الصدام الذي جرى في سوريا وإسقاط الطائرة الحربية الروسية بصواريخ بطائرات تركية، وكان المنطقة تتأهب لاندلاع تلك الحرب المدمرة بين القوتين، لكنه نجح في احتواء النيران المشتعلة حينها، وحاولوا توريط تركيا مرة أخرى في حرب مع اليونان ووصلت الأمور إلى حد التهديد العلني، ونجح في استيعابها، فالتجربة التركية تعرف درس التاريخ جيدا، وتعرف أن انهيار الدولة العثمانية بدأ عندما ورطها الانجليز والفرنسيين في الحرب المدمرة مع روسيا (1877–1878)، والتي أنهكت الدولة تماما وأفلستها، وفتحت الطريق أمام انهيارها التام وتمزيقها وخروج بلغاريا والبلقان بكامله من الدولة، وبالتالي فأي تدخل عسكري تركي في غزة اليوم هو عملية انتحارية لا تقدم عليها دولة ، عاقلة أو غير عاقلة، صغيرة أو كبيرة، وهناك مشروعات تقسيم جاهزة لتركيا من الجنوب ، حيث الميليشيات الكردية الانفصالية المدعومة من الجيش الأمريكي والطامحة في تأسيس دولة، ومن الشرق حيث الثأر الأرمني التاريخي ومطامع في أراضي تركيا، ومن الغرب حيث الأحلام اليونانية بإعادة احتلال أزمير والساحل الغربي، القيادة التركية تدرك كل ذلك بداهة، وتتعامل بذكاء ودهاء من تلك المؤامرات المحمومة المدفوعة بكراهية علنية لاردوغان وتركيا لا يخفيها الإعلام الغربي كله، وبالتالي، فتركيا ، مثل بقية القوى المؤثرة في العام ، تبحث اليوم عن أدوات ضغط أخرى بطرق مختلفة لوقف العدوان .

وتابع: أما مسألة إرسال أسلحة أو طائرات، فأنت لا تتحدث عن دولة تجري معها اتفاقات دولية كما هو الحال مع أذربيجان وليبيا، الوضع في غزة مختلف، كما أن تركيا لا تملك أي أرض مشتركة أو حدود جغرافية مع فلسطين تسمح "بالتهريب"، وإذا كان العالم كله كان عاجزا عن إدخال حليب أطفال أو كيس طحين أو إنقاذ جوعى على شفا الهلاك ، فالحديث عن إدخال السلاح هو خيال غير جاد في تلك الظروف. 

وقال: بعيدا عن السلاح والمواجهة العسكرية، فالموقف التركي من أعنف المواقف ضد إسرائيل حاليا، ووصل الأمر لتبادل السباب والشتائم العلنية بين أنقرة وتل أبيب، ويتهم نتانياهو القيادة التركية علنا بأنها الظهير السياسي لحماس، واردوغان لا يترك مناسبة إلا ويتوعد نتانياهو وأركان حكومته بالمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب، ويكرر ـ أمام الإعلام المحلي والدولي ـ وصفه لما يجري في غزة بأنه "حرب إبادة" ووحشية وخروج على القوانين الدولية، وفي جميع المحافل الدولية تقف تركيا إلى جانب فلسطين ودعم قضية غزة، وتنقض الرواية الإسرائيلية للأحداث.

وعلى الصعيد الإنساني جسر جوي وبحري ينقل المساعدات الغذائية والطبية إلى غزة عن طريق "العريش" في مصر، ومستشفيات ميدانية أقامتها الدولة التركية هناك، ودعم بأسطول من سيارات الإسعاف المجهزة وأطقم طبية.

على الصعيد الديبلوماسي تدعم الخارجية التركية المقاومة الفلسطينية بكل ما تملك من إمكانات، وتستقبل قادة المقاومة استقبالا رسميا، بمن في ذلك الرئيس اردوغان نفسه ووزير خارجيته، بالمقارنة في مصر التي لا تستقبل المقاومة إلا أمنيا، من خلال ضباط المخابرات، ولا يستقبلهم رئيس الدولة ولا حتى وزير الخارجية، ولقادة المقاومة حضور يطول شرحه (...) في أنقرة وإسطنبول، ويحظون بدعم إعلامي وشعبي واسع النطاق في تركيا، باستثناء بعض أحزاب المعارضة العلمانية المتطرفة.

وتابع: كما بادرت تركيا منذ بداية العدوان إلى الدعوة لاجتماع المنظمات الإسلامية "المؤتمر الإسلامي" وغيره، ودعت لصياغة موقف إسلامي موحد يمكنه الضغط على المجتمع الدولي، لأن دولة واحدة لا يمكنها فعل ذلك، لكن النوايا كانت مبعثرة، وهناك تصريحات علنية لقادة العدو تتحدث عن دول عربية في المنطقة تشجع على إبادة حماس ومواصلة تصفيتها سرا، وذكروا بالاسم "مصر" مرارا، كما لا يخفى حملات التشويه العدوانية الشرسة من إعلام بعض دول الخليج الذي يبدو أحيانا كما لو كان إعلاما للعدو أو جيشه.

وأوضح أن هناك شركات تجارية تركية خاصة لها تعاقدات مع شركات إسرائيلية من عشرات السنين، لأن الدولة التركية من 70 عاما ولها علاقات طبيعية مع تل أبيب، وتتعامل معها تجاريا وسياسي وديبلوماسيا مثل اليونان وإيطاليا وقبرص، وهي علاقات من ميراث الحكم العسكري لتركيا قديما، والاقتصاد التركي ليبرالي التوجه، 90% منه تقريبا يقوده القطاع الخاص ، والدولة لا تتدخل إلا في حدود اختصاصها الإداري والقانوني، كتحصيل الضرائب والتأمينات وما شابه ذلك، ولا تتدخل في أعمال الشركات ولا اختياراتها، إلا في ما يتصل بالأمن القومي المباشر "تصدير السلاح"، وبالتالي لا يصح عندما تقوم شركة تركية بإرسال أي منتج إلى تل أبيب أن يتحدث "عاقل منصف" عن أن (تركيا تدعم إسرائيل) بكذا وكذا، وإنما تقول شركة كذا في تركيا، كما تقول شركة كذا في هولندا أو اليابان، ولا تقول أن اليابان وهولندا يدعمون، لكن البعض يحلو له الاصطياد لمرارات في نفسه يحملها أساسا للتجربة التركية أو لرئيسها ، حتى من قبل قضية غزة بسنوات، فقط وجد في أحداث غزة مادة جديدة للمتاجرة وتصفية الحسابات .

والحقيقة أن ما تفعله بعض الشركات التركية أو بعض رجال الأعمال الأتراك، أيا كان انتماؤهم السياسي أو الحزبي، هو وصمة عار عليهم ، لن تمحى على مدى أجيال، ولا يمكن أن تكون شهوة المال والثراء مبررا لمساعدة كيان يرتكب كل تلك الجرائم الوحشية في حق أهل فلسطين، ولا يمكن أن ترى شعوب العالم غير العربي وغير الإسلامي تمور بالغضب والتظاهر دفاعا عن المحاصرين والجوعى والمظلومين في غزة وأنت تدير ظهرك لكل ذلك، لا يمكن تصور أن تنعدم الإنسانية إلى هذا المستوى الحقير.

وختم: التضامن مع محنة أهلنا في غزة ضرورة أخلاقية وإنسانية، كما أنها ـ بالنسبة لنا ـ فريضة دينية، وينبغي أن تتفرغ الطاقات للعمل الإيجابي تجاه هؤلاء المستضعفين، ومساعدتهم بالكلمة والعمل، ولا يصح أن نسمح للبعض بالمتاجرة بدماء الأطفال لتصفية حسابات مع هذا البلد أو ذاك، على خلفيات لا صلة لها بالقضية من أساسها، لا يصح أن نهدر الإجماع الإنساني حول غزة ونمزقه بتحويله إلى مادة للمعارك الجانبية والتراشقات فتضيع المسؤولية الأصلية والرسالة الأصلية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!