د. سمير صالحة - خاص لترك برس

واشنطن هي التي تمتحن تركيا دائما في مسالة الولاء والطاعة تحت ذريعة متطلبات الشراكة مع الغرب والالتزام بالتعهدات المقدمة له عبر العضوية التركية في المجلس الاوروبي وحلف شمال الاطلسي وجلوسها بين مجموعة الدول العشرين . من النادر ان تسأل تركيا عن الذي يزعجها او يقلقها اميركيا او غربيا .

أجواء ما قبل الاجتماعات التركية الاميركية الاخيرة في انقرة تشير إلى أن النقاشات ستكون حادة واللهجة أكثر من تصعيدية خصوصا وسط الكثير من الاعتراضات التركية التي يقابلها التصلب  الاميركي في مسار ملف الازمة السورية المرتبط بأكثر من ملف اقليمي ودولي يعني البلدين .

ما نشر وقيل بشأن تزايد تحذيرات المسؤولين الأميركيين عن احتمال تعرض العلاقات التركية الأميركية للتدهور والتراجع في حال عدم الوصول إلى ما تريده واشنطن في الملف السوري أضيف اليه اليوم ملف الكيان الكردي في شمال سوريا .

الادارة الاميركية تريد مثلا ان يبلع الاتراك الغصة ولا يسألوا  لماذا كل هذا الدعم الاميركي لأصدقاء واشنطن من الأكراد في العراق وسوريا ؟ وكيف ولماذا يكون حليفهم اليوم هو حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي ولد في رحم حزب العمال الكردستاني الموصوف بالارهابي في تركيا واميركا ؟

سياسة "الشراكة النموذجية" التي تروج لها واشنطن في علاقاتها مع أنقرة اصطدمت اليوم بدبلوماسية  "العمق الإستراتيجي" التي تدافع عنها حكومة العدالة والتنمية وأحلام العودة إلى أيام السعادة بين واشنطن وأنقرة باتت أكثر صعوبة وتعقيدا امام المشهد السوري .

المساومات تركزت هذه المرة على قبول واشنطن دعم المعارضة السورية ومنع الكيان الكردي في شمال سوريا مقابل القرار التركي بالدخول في الحرب على داعش وفتح ابواب قاعدة  " انجرليك " 

التركية اميركيا امام الغارات الجوية .

البعض في تركيا يراهن على تقارب تركي كردي سوري جديد بعد زيارة صالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردي في سوريا السرية الاخيرة الى تركيا والتي التقى خلالها مسؤولين في جهاز المخابرات التركية . لكن الذي يقلق تركيا هو ان يكون اكراد سوريا بدعم وتنسيق مع عواصم غربية يلعبون مسالة الوقت فقط مع تركيا لإنجاز خارطة التحولات الجغرافية والديمغرافية في شمال سوريا تمهيدا لانزال الضربة النهائية باللاعبين المحليين . تركيا تحاول الرد سريعا لتعطيل اي مشروع بهذا الاتجاه من خلال تعزيز وزيادة دعمها لقوات المعارضة السورية المعتدلة اولا ثم لدعم تمويل وتجهيز الجيش التركماني السوري للوقوف في وجه مخطط تفريغ وتصفية القرى التركمانية في سوريا .

انقرة والعديد من القوى الاقليمية يعرفان ان بين اهداف واشنطن السورية اليوم تحويل القوى الكردية في حزب الاتحاد الديمقراطي المدعوم مباشرة من قبل حزب العمال الكردستاني الى قوتها الضاربة ورأس حربتها في البنية السياسية والعسكرية الجديدة لسوريا . لكن ما لا تاخذ به الادارة الاميركية بعين الاعتبار مصالح الاخرين وحساباتهم في سوريا اولا وقدرة تحالفها مع الأكراد على وقف تقدم وانتشار مقاتلي داعش في سوريا والعراق ثانيا . مقايضة تركيا وموقعها ودورها بالتحالف الكردي كما فعلت في العراق لا يمكن تكراره اليوم في سوريا لان المعطيات والتركيبة تختلف عما كانت عليه الحالة في العراق .

واشنطن تردد انها تعترض على التقارب الواضح بين انقرة وبين  “جيش الفتح” بعد الذي انجزه عسكريا في شمال سورية والذي كان بدعم واضح من تركيا لكن انقرة قلقة بسبب اعتراضات واشنطن الدائمة على اي تغيير حقيقي في جبهة الجنوب السوري وتجاهلها مقابل ذلك للتقدم الكردي في شمال سوريا باتجاه البحر .

 اميركا يغضبها الموقف التركي في سوريا كون انقرة تقول انها التحقت بالتحالف الدولي لكنها لم تنخرط في العمليات العسكرية. لكن انقرة نفسها تتساءل هذه المرة عن اسباب رفض واشنطن الجمع بين ضرب داعش ورحيل نظام الأسد معاً والحالة التي تعقب تمدد قوات حماية الشعب الكردية في الأراضي بعد انسحاب داعش منها في كل مرة وبمساعدة الطيران الأمريكي وتجاهلها لاندفاع  القوات الكردية نحو كيان مستقل في شمال سوريا ؟

 استغلال البعض لحالة التجاذب السياسي الداخلي الذي تعيشه تركيا واحتمال الذهاب مجددا لانتخابات مبكرة فضلاً عن أن تكلفة الحرب في سوريا ربما تكون باهظة على دولة بها أكثر من مليوني لاجئ وعلى حدودها يقوم تنظيم داعش الذي يهدد يوميًا بالاختراقات الامنية ومعادلة ان تركيا لا تريد الانزلاق إلى حرب مفتوحة في سوريا وانها لن تتحرك الا في إطار جهد أممي وان انقرة لن تدخل في مواجهات مع واشنطن خاصة في الوقت الحالي تتراجع يوما بعد اخر بسبب تقدم القلق التركي حيال التطورات في شمال سوريا وشعور الاتراك بالتحضير لفخ يرسم لهم في الملف الكردي . تركيا تمتلك 1200 كلم من الحدود المشتركة مع العراق وسوريا وهو ما يجعلها أكثر المعترضين لخطر تمدد داعش وانتشاره ثم بروز مشروع الكيان الكردي في مناطق شمال سوريا التي تعزلها عن العالم العربي في حال ظهرت الى العلن وتكرست .

تصريحات الرئيس الأمريكي باراك اوباما الأخيرة والتي دعا خلالها إلى مزيد من الصبر في الحرب ضد تنظيم « الدولة الإسلامية « لا تشمل النظام السوري ولا تطورات المشهد الكردي في سوريا وربما لهذا السبب قوبلت بسخرية وانتقادات لاذعة من صقور الكونغرس .السناتور جون ماكين بأن مزاعم استراتيجية البيت الأبيض لهزيمة «داعش» ما هي في الواقع إلا حالة بائسة من خداع الذات. 

طبول الحرب التركية التي تقرع على مقربة من الخط الحدودي الفاصل بين تركيا وسوريا له علاقة مباشرة بقرار التحرك العسكري لمنع المشروع الكردي على حدودها تماما كما حدث في شمال العراق  وباتوا قاب قوسين من اقامة اقليم كردي في سوريا يتواصل جغرافيا مع أكراد العراق وجنوب شرق تركيا المعروف بأكثريته الكردية.

ورغم ان السفارة الاميركية في انقرة تقول ان " التعاون في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.

 وسبل الحاق الهزيمة به هو في قلب المحادثات التركية الاميركية فان مصادر دبلوماسية تركية تقول ان الاتراك تقدموا بورقة عمل مفصلة تتضمن خطط التنسيق والتعاون التركي الاميركي خصوصا وان مشروع تدريب وتسليح المعارضة السورية المعتدلة لا يتقدم على الارض بسبب التشدد الاميركي في اختيار العناصر وتحديد المهام الاولى لها والتي هي الحرب على داعش قبل النظام السوري التي تلقى اعتراضات من تركيا والقيادات السورية في الائتلاف الوطني والجيش السوري الحر . وإلا فما معنى ان تعلن واشنطن عن لا قيمة التنسيق العسكري مع تركيا لتدريب انصار المعارضة السورية وان الرقم لا يزيد عن 60 عنصرا حتى الان ؟ يتابع القول ان انقرة تقدمت بلائحة طلبات واضحة ومحددة من واشنطن لناحية تحديد دورها وموقفها من التطورات الامنية المتلاحقة في شمال سوريا والتقدم الكردي باتجاه التحضير لاعلان الكيان المستقل في تلك المناطق الحدودية المجاورة لتركيا .

انقرة ابلغت واشنطن التي تريد استخدام قاعدة " انجرليك " التركية في اطار خطة تحرك عسكري متزامن في العراق وسوريا ضد داعش انها تريد ان تكون في غرفة العمليات الحربية وتعرف كافة التفاصيل حول الأهداف والطلعات الجوية لان تركيا لا تريد ان تكون مرة اخرى امام حالة لجوء واسعة باتجاه اراضيها . كا ان انقرة تريد ان اسمع من الادارة الاميركية موقفها النهائي حيال ما يجري كرديا على حدودها الجنوبية وان تدعم واشنطن لمشروع المنطقة الامنة التي تصر عليها القيادة التركية لتفتح الطريق امام الجيش السوري الحر للتمركز والتحرك منها بحماية جوية غربية بالتنسيق مع تركيا . 

رئيس الحكومة الانتقالية أحمد داود أوغلو اعلن أنّ “لا خطط فورية للتدخل في سورية، ينبغي ألا يتوقع أحد أن تركيا ستدخل سورية غداً أو في المستقبل القريب”. لكنه أشار إلى أن بلاده لن تنتظر إلى الغد في حال تم تهديد أمنها القومي. هذا التهديد يمكن تفسيره بنقطتين: توغّل “الاتحاد الديمقراطي” غرب الفرات باتجاه جرابلس، او سقوط أعزاز في يد “داعش”.

نائب رئيس الوزراء التركي نعمان كورتولموش قال بأن: "تركيا تملك القوة الكافية لحماية وحدتها. لن تسمح لتنفيذ المشاريع السياسية على حدودها. ونحن نتخذ كافة تدابيرنا. ونقوم بتقوية مناطقنا الحدودية لكي لا نبقى مكتوفي الأيدي في حال حصل تطور يهدد حدود تركيا " .

الاعلامي التركي نوزات شيشاك كتب يقول نقلا عن مصادر استخباراتية تركية ان هناك خطة إيرانية تتقدم على الارض في شمال العراق لاضعاف وابعاد حكم مسعود البرزاني في اربيل ودعم القوى السياسية المعارضة التي يقودها جلال الطالباني لتوسيع صلاحيات مدن اخرى مثل السليمانية والدهوك  وحلبجا تمهيدا للسيطرة الايرانية هناك وربط هذا التحالف بتحالف اخر تعد له في شمال سوريا بالتنسيق مع القوى الكردية هناك وعلى رأسها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي . 

وتابع شيشاك يقول ان الهدف الايراني هو ربط الكيانين في شمال العراق وشمال سوريا ببعضهما البعض والوصول الى البحر المتوسط عبر نقطة ساحلية في  شمال غرب سوريا لاضعاف تركيا ومحاصرتها وقطع تواصلها الجغرافي مع العالم العربي .

تركيا التي تحلم بتوسيع رقعة تمددها الاستراتيجي الاقليمي والتي تردد أنها لا تريد التفريط بكل ما بنته من علاقة مع شعوب دول المنطقة تعرف تماما أن البعض يريد حرمانها من كل ما تملكه من اوراق تلعبها إذا ما سنحت له الفرصة الملائمة . ترى هل هناك علاقة بين التقارب التركي الروسي والصيني في الآونة الأخيرة وبين التراجع الملحوظ في مسار العلاقات التركية الاميركية ؟

 البيت الأبيض الذي ردد دائما أن الملفين الإسرائيلي والإيراني هما شغله الشاغل في السنوات الاخيرة يبدو انه سيعطي الاولوية الاستراتيجية لطهران وتل ابيب على حساب انقرة " المتمردة " على واشنطن وحساباتها والتي بدات تقف علنا في وجه الهيمنة الأميركية .

لا خيار اخر لتركيا  بعد هذه الساعة سوى المضي في سياسة التمسك تركيا بان نكون جزءا من حقيقة وتركيبة المنطقة وتاريخها وجغرافيتها وثقافتها، رغم كل التهديدات والمخاطر وحتى ولو كان ذلك على حساب تراجع إلعلاقات بواشنطن والعواصم الغربية التي تنسق معها .

الصمود اليوناني في وجه أوروبا قد ينفعنا في تركيا للاستفادة منه كنموذج للاعتراض على ما لا يعجبنا والتلويح بالمغادرة مهما كان الثمن حتى نخرج من محنة ان يسألنا بعض الليبراليين العرب متى ستطردون من الناتو ؟

أنقرة تعرف أن ثوابت سياستها الإقليمية المعلنة في العقد الاخير لا بد ان تستمر رغم تباعدها في بعض الأحيان مع حسابات الغرب وأميركا تحديدا . حكومة العدالة والتنمية قد تغادر وتاتي حكومة اخرى لا بد ان تعرف أن المضي في مشروع توسيع رقعة الديمقراطية وتحرير الاقتصاد التركي من أي ارتهان غربي والتذكر دائما أن الخيارات العربية والإسلامية لا يمكن ان يضحى بها على حساب خيارات تركيا الغربية وان الفرص الإقليمية والدولية من حولها قد تتراجع لكن نظرة غالبية شعوب المنطقة الى تركيا والرهان عليها في العقد الاخير  هو الخيار الوحيد أمامها كما فعلت أكثر من مرة في السنوات الأخيرة في التعامل مع ملفات العراق وفلسطين وجنوب لبنان والعلاقات مع اسرائيل عندما قالت لا رغم شعورها بخطورة ما يقال لها أو يراد أن يفرض عليها.

انقرة ذكرت الادارة الاميركية انها دخلت العراق وافغانستان واحتلتهما لسنوات بسبب تهديد أمنها القومي كما قالت يومها وعلى تركيا أن تضع نفسها في حالة طوارئ قصوى ترتبط مباشرة بمخطط تغيير الخرائط فيها ومن حولها .

منطق .. 

انتم تقتتلون

 نحن نتقاسم الغنائم مع الرابحين

ودعونا نستعمركم

لا يمكن ان يستمر الى ما لا نهاية 

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس