
ياسين أقطاي - يني شفق
في يوم الثلاثاء الماضي كان من المقرر استئناف رحلات الطيران لشركة "أجيت" بين أنقرة وحلب وكنت أرغب أن أكون ضمن ركاب الرحلة الافتتاحية، استجابة لدعوة تلقيتها مسبقا، إلا أن الرحلة التي كانت مقررة في ذلك اليوم، تأجلت إلى موعد لاحق بسبب عدم اكتمال الإجراءات التقنية. ومع إصرار المضيفين على الدعوة، قررنا - بعد أن عقدنا العزم على السفر - أن نشرع في الرحلة برًّا بدلًا من الجو، فانطلقنا في اليوم ذاته عبر الطرق البرية التي نعرفها.
وصلنا إلى معبر أونجو بينار الحدودي في كيلس مع حلول المساء. وكان أول مشهد صادفناه هو طوابير الناس العائدين بشكل نهائي من تركيا إلى سوريا، حاملين أمتعتهم على متن شاحنات صغيرة. صحيح أن العودة الجماعية لم تكن على نطاق واسع، إلا أن حركة العودة كانت مستمرة بشكل منتظم يوميًا. ويبدو أن العائدين قد اتخذوا الترتيبات اللازمة لتأمين احتياجاتهم الأساسية من المأوى والمعيشة في الأماكن التي سيذهبون إليها، غير أن هذه الحال لا تنطبق على الجميع بالطبع.
بعد كليس، تبدأ الرحلة عبر مدينة "إعزاز" امتداداً إلى حلب، وحماة، وحمص، وصولاً إلى دمشق، فتسير وسط مدن دمرتها قذائف الدبابات والمدافع، وقصف الطائرات والصواريخ. مدن خلت من كل مظاهر الحياة، وأصبحت أطلالاً شاخصة تروي الحقيقة الساطعة لأسباب لجوء ملايين السوريين إلى بلادنا. فمن أتى على هذه المدن بهذا الخراب، ماذا كان ليفعل بسكانها؟ بل أليس استهداف البشر هو الغاية الأصلية لكل هذا التدمير؟ كم من الحيوات، وكم من القصص، والصداقات، والأفراح، والأعراس، كانت تضج بها تلك الشوارع قبل أن تتحول إلى مدن أشباح، كم شهدت هذه المدن من مشاهد إنسانية؟ وكل إنسان قُذف إلى هذه الحقول الجماعية للموت، كان عالمًا قائمًا بذاته. فأي قسوة هذه؟ وأي مستوى من الوحشية ذاك الذي ألقى بالبشر في هذا المصير وفي مقابر جماعية واحدًا تلو الآخر؟
وفي خضم هذه المشاهد، لا نزال في تركيا نهدر الوقت في جدل عقيم حول ما إذا كان أصل لقب بشار "أسد" أم "أسعد". وفي الطريق، حدّثني صديق أردني، يمتلك ذاكرة حادة ومعرفة واسعة، بمعلومة مثيرة؛ حيث أخبرني أن "حافظ الأسد" كان اسمه الحقيقي "حافظ سليمان الوحش". وأردف موضحًا أن حافظ الوحش، الذي كان طيارًا في الجيش السوري أيام الوحدة بين مصر وسوريا، التقى بعبد الناصر خلال وجوده في مصر. وعندما ذكر له اسمه، قال له عبد الناصر مجاملة إنه من الأجدر أن يكون لقبه "أسد" بدلًا من "وحش". ومنذ ذلك الحين، تبنّت عائلة "الوحش" لقب "الأسد"، ليصعد أفرادها إلى مسرح التاريخ بلقبهم الجديد بعد أن استلهمته من دكتاتور عربي آخر. غير أن ما عاناه السوريون على يد هذه العائلة طوال 54 عامًا من حكمها، إنما يعكس بصدق حقيقتها الأصلية المرتبطة باسمها القديم المخفي: "الوحش"، مهما حاولوا تجميله بصفات كـ"الأسد" أو غيره.
بعد انتصار الثورة في سوريا، يلمس المرء بوضوح في وجوه الناس شعورا عارما بالراحة والانفراج. ورغم مرور أربعة أشهر ونصف على هذا التحول الكبير، لا يزال الناس عاجزين عن تصديق ما يعيشونه، وبعضهم يرى ما حدث على أنه معجزة من معجزات الله ونعمة لا يوفونها حقها مهما لهجت أسنتهم بالحمد والثناء. وبالطبع إلى جانب ذلك، تُلاحظ جهود هذا الشعب الذي لم يعتد على هذا القدر من الحرية، للتكيف تدريجيًا مع النظام الجديد الناشئ، ليصبح جزءًا منه.
إن الشعب السوري شعب مجتهد وذكي ومتحضر بطبعه. فدمشق، التي كانت مركزًا للحضارة الإسلامية لقرون، تتوق إلى استئناف دورها كأقوى حاضنة للحضارة في مجالات العلم والثقافة والفن والأدب. ولكن بعد قرن من الاحتلال والاستبداد، ما زال الطريق طويلاً أمامها لتحقيق ذلك. فقبل كل شيء، لا بد أولًا من الشروع في عملية إعادة الإعمار الأساسية؛ إعادة بناء بلد دُمر وهُدم، وإعادة توطين شعب هُجِّر من أرضه قسرًا.
ويسعى قادة الثورة؛ أحد الشرع وفريقه إلى إدارة المرحلة الانتقالية بمنتهى النضج والحكمة. إلا أن الشعب الذي يديرونه لا يشاركهم جميعًا هذا القدر من الوعي والحكمة. فما تزال مشاعر الغضب والرغبة في الانتقام، أو على الأقل المطالبة بتحقيق العدالة، حاضرة بقوة، تجاه الأسد وفلوله الذين ارتكبوا إبادة جماعية بحق شعبهم طيلة 54 عامًا.
في المقابل، ثمة إدراك عميق لدى الشَرع وفريقه أن بناء مجتمع جديد وقوي لا يتحقق إلا باتباع المنهج النبوي القائم على الحكمة. لذا، يبذلون جهودًا مضنية لضمان أن تجري هذه المرحلة الانتقالية دون الانزلاق إلى دوامة الانتقام والثأر. فكل من يتذكر أفعال الأسد وشبيحته يستحيل ألا تثور مشاعر الغضب داخله، ولكن أحمد الشَرع ورفاقه يدركون تماما أن بناء المستقبل لا يمكن أن يتم دون السيطرة على هذه المشاعر. غير أن السيطرة وحدها لا تكفي ما لم تُحقق العدالة، ولو بالحد الأدنى.
وهناك أيضًا من رجال النظام القديم من يحاولون التسلل إلى المشهد الجديد وكأن شيئًا لم يكن، رافعين شعار "مات الملك القديم، عاش الملك الجديد"، ولكن ثمة إجماع واسع على ضرورة عدم تمكين هؤلاء من مناصب لا يستحقونها، حيث يطالبون بها بدعوى الشمول وعدم الإقصاء. إن تحقيق التوازن بين هذه التوقعات يشكل أحد أبرز الاختبارات أمام قيادة الشَرع وحكومته. فمن جهة، هناك مشاعر الانتقام المتراكمة من سنوات طويلة من الظلم والقمع والتعذيب والإبادة الجماعية التي يصعب نسيانها حقًا، ومن جهة أخرى، هناك واقع يحتم التعايش مع شريحة واسعة من الشعب تعاونت مع النظام في تلك الفترة أو غضت الطرف عن مظالمه أو أيدته بشكل أو بآخر. وفي النهاية، لا مناص من أن يعيش الطرفان معًا ليواصلا بناء وحدة سوريا. والجميع يدرك ويرى أن هذا ليس بالأمر السهل.
والحقيقة، لولا قوة إيمانهم ودوافعهم والفلسفة التي يستلهم منها الشَرع وفريقه نهجهم، لغرقت البلاد في بحر من الدماء منذ أمد بعيد. ولكن منذ اللحظة الأولى، حدد الثوار معيارهم الأخلاقي مستلهمين من الخُلُق النبوي في الفتح. فالأخلاق الثورية الإسلامية ليست انتقامية، بل قائمة على العدل والعفو. ولكنه بالطبع لا يشمل بعض الفئات أبداً.
سنواصل بإذن الله تدوين انطباعاتنا عن سوريا في مقالات قادمة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس