د. طالب الدغيم - خاص ترك برس

.. تمرّ منطقة الشرق الأوسط بلحظة تحول إستراتيجي حاد في ظل تصعيد غير مسبوق بين إيران وإسرائيل، يُخرج الصراع من قوالب الحرب بالوكالة إلى مواجهات مباشرة تختبر نظريات الردع التقليدي وتعيد تعريف موازين القوة. حيث تتبنى إسرائيل عقيدة الردع التراكمي المدعوم بالتفوّق النوعي الاستراتيجي، مستندة إلى بنية متكاملة من الدفاعات الجوية متعددة الطبقات، والاستخبارات عالية الدقة، والقدرات السيبرانية. وإن هذا التحول يعكس ابتعادًا تدريجيًا عن منطق الضربة الاستباقية المباشرة نحو احتواء التهديدات عبر تقنيات دقيقة واستجابات محسوبة. ورغم هذا التفوّق، تعرضت العقيدة الإسرائيلية لاختبارات قاسية، لا سيما في هجمات غير تقليدية كشفت عن هشاشات بنيوية في منظومة الردع.

وفي المقابل، تعيد إيران صياغة معادلتها الردعية من خلال نموذج الردع غير المتكافئ، القائم على استراتيجية الدفاع بالعمق والتوسع الإقليمي عبر شبكة من الوكلاء. الضربة المباشرة التي استهدفت تل أبيب تمثل تجاوزًا نوعيًا في العقيدة الإيرانية، إذ كسرت حاجز "الحصانة الجغرافية" الذي طالما اعتبرته إسرائيل من ركائز أمنها القومي. وتدور اليوم معادلة إستراتيجية معقدة عنوانها "سباق السيف والدرع"؛ فإسرائيل تراهن على تفوقها التكنولوجي والاستخباراتي. وإيران تراهن على شبكاتها المتبقية، والتمدد الجغرافي، وتعدد أدوات الضغط العسكري والنفسي.

وإن هذه الثنائية أدخلت المنطقة في مرحلة ردع متبادل غير متوازن (Asymmetric Mutual Deterrence)، وهي حالة تجمع بين الاستقرار الظاهري والهشاشة البنيوية، ما يعزز من احتمالات الانزلاق العرضي نحو مواجهة شاملة. وفي ضوء ذلك، يصح ما قرره "كلاوزفيتز" بأن "الحرب امتداد للسياسة بوسائل عنيفة"، ويفرض على الباحثين تفكيك أبعاد هذا الصراع لا بوصفه مواجهة عسكرية فقط، بل باعتباره انعكاسًا مركبًا لبنية العقائد، والتحولات الجيوسياسية، والمنظومات التكنولوجية المتقدمة.

البُعد الجيوسياسي؛ تشكُّل محاور متحركة وتحالفات وظيفية

لا يُقاس التصعيد الإيراني–الإسرائيلي بآثاره الميدانية المباشرة فحسب، بل بما أحدثه من خلخلة في بنية التحالفات الإقليمية والدولية، وكشفه لجيولوجيا جديدة في توازن القوى. فالمعادلة الجيوسياسية الراهنة تُظهر ارتباكًا في تموضع القوى الكبرى:

·       الولايات المتحدة تمارس ما يمكن تسميته بـ"الردع الصامت" أو Strategic Restraint، عبر دعم مشروط لإسرائيل دون التورط في تصعيد قد يهدد استراتيجيتها العالمية في مواجهة الصين.

·       روسيا تتبنى خطابًا دفاعيًا يحمي مصالحها المتآكلة في الشرق الأوسط، مستخدمة الحضور الإيراني كأداة ردع ضد التفرد الإسرائيلي.

·       الصين، تنظر للصراع من زاوية الجغرافيا الاقتصادية، وتُفعّل دبلوماسية "ضبط النفس" لحماية مصالحها الطاقية ومشروع "الحزام والطريق".

وأما إقليميًا، فتتسم المواقف ببراغماتية وظيفية أكثر منها عقائدية:

·       تركيا تتبنى موقفًا موازنًا يرفض الضربات الإسرائيلية إعلاميًا، دون التورط عمليًا في دعم طهران، تعزيزًا لمكانتها كقوة سنية مستقلة.

·       بعض دول الخليج، كالإمارات والبحرين، تُظهر حيادًا معلنًا، فيما تشير التقارير إلى تنسيق استخباراتي غير معلن مع إسرائيل، استمرارًا لتفاهمات ما بعد "اتفاقيات إبراهيم".

·       مصر والأردن، المتأرجحتان بين الهواجس الأمنية والضغوط الشعبية، تنحوان إلى التهدئة نظرًا لهشاشة جبهاتهما الداخلية.

ويُعيد هذا المشهد إنتاج "صراع المحاور" بصيغته الحديثة، حيث تتكوّن تحالفات مرنة مبنية على الخوف المشترك من الانهيار أو التمدد المعاكس، لا على التوافق الإيديولوجي. إنها تحالفات ظرفية لا تُؤسس على مشروع إقليمي جامع، بل على ردود أفعال محسوبة ضمن بيئة أمنية هشة.

 البُعد العقائدي والسياسي؛ صراع الرموز وتعبئة الهويات

يستبطن الصراع الإيراني - الإسرائيلي بُعدًا رمزيًا وهوياتيًا يُضاعف من تعقيد المشهد، إذ تتحول الخطابات إلى أدوات تعبئة، وتغدو الذاكرة التاريخية جزءًا من منظومة الاشتباك العسكري .. فإسرائيل تعيد تفعيل سردية "التهديد الوجودي"، وتستدعي في خطابها مفهوم "ردع الكارثة" (Catastrophic Deterrence)، حيث يُبرر اتخاذ أقصى أشكال المبادرة تحت وطأة ذاكرة الإبادة الجماعية وأسطورة الانهيار المصيري (ماسادا). وأما إيران، فترتكز في شرعيتها الرمزية على مركزية القضية الفلسطينية، وتحوّل مواجهة إسرائيل إلى مرآة لخطابها العقائدي التحرري. ,تستحضر خطاب "كربلاء" لتبرير الاستمرار والمواجهة، حيث تتحوّل الهوية الدينية إلى أداة سياسية عابرة للحدود.

وفقًا للمفكر ألكسندر ويندت، فإن النظام الدولي يتشكل بقدر ما يتشكل من القوة المادية عبر الصور المتبادلة للذات والآخر. وهنا تكمن خطورة هذا الصراع الرمزي: إذ يصعّب الانسحاب ويحوّل التسوية إلى فعل "خيانة رمزية"، ما يجعل من كل جولة تصعيد بمثابة إعادة تكوين للهويات، لا فقط لتوازنات القوة.

سياسيًا، يوظف الطرفان التصعيد كأداة لإدارة التوترات الداخلية:

·       إيران تستخدم الخطاب المقاوم للالتفاف على أزماتها الاقتصادية وتعزيز السيطرة الداخلية.

·       إسرائيل تستثمر المواجهة لتوحيد صفوفها في ظل انقسامات حادة تتعلق بالقضاء والسياسة والدين.

لكن الإفراط في الاستثمار الرمزي يؤدي إلى مأزق استراتيجي: كلما ارتفعت سقوف التعبئة، ضاق هامش المناورة السياسية، واتسعت احتمالات الانفجار غير المحسوب.

 البُعد الاقتصادي؛ الصراع عبر أمن الطاقة والعقوبات وتوازن الموارد

في عالم تزايد فيه تسييس الاقتصاد وتوظيف الطاقة كأداة استراتيجية، يشكل البعد الاقتصادي في الصراع الإيراني - الإسرائيلي جبهة موازية لا تقل أهمية عن الجبهة العسكرية. فالشرق الأوسط، بصفته عقدة مركزية لشبكات الطاقة العالمية، أصبح ميدانًا مفتوحًا لمعادلات الردع الاقتصادي.

وتلوّح إيران بورقة مضيق هرمز باعتباره أداة "خنق استراتيجي" للغرب، في حال تطوّر التصعيد، وهو تهديد يهدد نحو 20% من إمدادات النفط العالمية. في المقابل، فإن أي استهداف لمنشآت الغاز الإسرائيلية أو خطوط الطاقة الخليجية سيقود إلى اضطرابات في أسواق الطاقة العالمية، بما يعيد للأذهان "صدمة النفط" في سبعينيات القرن الماضي.

كما تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية أدوات العقوبات الاقتصادية المركبة لخنق القدرات المالية الإيرانية، من خلال ملاحقة شبكات التهريب والتمويل، وتجميد أصول الحرس الثوري، وهو ما يشكل نوعًا من الردع غير المباشر. وفي المقابل، تعتمد إيران على "اقتصاد الظل" وتحالفات مرنة مع الصين وروسيا، لضمان الحد الأدنى من الاستمرارية المالية لمشروعها الإقليمي.

ورغم ما تتمتع به إسرائيل من متانة اقتصادية وتقنية، فإنها ليست بمنأى عن الخسائر. فالتعبئة الأمنية، وتذبذب الأسواق، وتراجع ثقة المستثمرين، جميعها مؤشرات على التكلفة الاقتصادية للحرب اللاخطية، خاصة إذا ما طالت منشآت الطاقة أو البنية التحتية الحيوية.

وهكذا يتشكل ردع اقتصادي متبادل، تتقاطع فيه خطوط النفط والغاز مع مسارات الحرب، ويُعاد فيه تعريف الأمن القومي من خلال السيطرة على الموارد والأسواق، لا فقط على المواقع والمعابر.

البُعد السيبراني والإعلامي؛ السيطرة على الوعي وإعادة تشكيل الإدراك

أصبح ميدان الحرب اليوم متعدد الطبقات، يمتد من الأرض إلى الفضاء الرقمي، ويعتمد على ما بات يُعرف بـ "الردع الإدراكي"، حيث تُصاغ الانتصارات والهزائم بقدر ما تُصاغ الحقائق.

تتنافس إيران وإسرائيل في ساحة الحرب السيبرانية والإعلامية على امتلاك الرواية والتأثير في الإدراك الجمعي. يُوظف الإعلام الرسمي والرقمي في كلا الجانبين كمنصات تعبئة نفسية وخطابية، حيث تتقاطع الرسائل الرمزية مع الأدوات التقنية لخلق صورة تفوق متخيلة، لا تقل أثرًا عن التفوق العسكري الميداني.

في هذا السياق، تُعد الحسابات على منصات مثل "إكس" و"تلغرام" أدوات فعالة في ما يُعرف بـ**"الحرب النفسية الرقمية"**، حيث تُبث الإنذارات الكاذبة، وتُضخم أو تُقلل من حجم الأحداث، في محاولات لإعادة تشكيل مشاعر الثقة والخوف.

أما في البُعد السيبراني، فينخرط الطرفان في حرب ظل تعتمد مبدأ "الضربات المحدودة دون التصعيد"، حيث تستهدف البنى التحتية الحساسة بطريقة مدروسة، لإيصال رسائل ردعية دون تجاوز عتبة الانفجار الشامل. لكن خطر "الضربة السيبرانية القاضية" يبقى قائمًا، وهي هجمة رقمية كبرى قد تشل منشآت دولة بأكملها.

وبهذا، يظهر هذا الصراع نموذجًا مكتملًا لما يسميه ويليام ليند وتوماس هامز بـ"الجيل الخامس من الحروب"، حيث تتقاطع فيه أدوات الإعلام، والسيبرانية، والتلاعب بالحقائق، لصناعة واقع إدراكي يسبق، بل ويحدد، نتائج الحرب الفعلية.

ما بعد الردع التقليدي؛ الشرق الأوسط على تخوم معركة مفتوحة أو حسم تفاوضي

تكشف المواجهة الإيرانية - الإسرائيلية عن تحوّل استراتيجي عميق في طبيعة الحروب وتوازنات القوة، حيث تختلط القوة الصلبة (الضربات العسكرية) بالناعمة (السيطرة الرمزية)، وتتداخل الميادين من الجغرافيا إلى الوعي، ومن العقيدة إلى الاقتصاد. وقد أثبتت هذه المواجهة أن الردع الإسرائيلي التقليدي لم يعد كافيًا، في ظل خصم يمتلك عقيدة مرنة، وأذرع متعددة، واستعدادًا للتضحية عبر نموذج "الردع المتحرك" و"الإنهاك المتدرج". وفي المقابل، ورغم تفوق إسرائيل التكنولوجي والاستخباراتي، فإنها تواجه بيئة ردع غير متكافئة لا تتيح لها الحسم المباشر دون تكلفة باهظة.

وإن مستقبل هذا الصراع سيُحدده نجاح الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها الطرف الوحيد القادر على ضبط التوازن، في تفعيل أدوات التهدئة واحتواء الانزلاق. وإلا، فإن الشرق الأوسط مقبل على مرحلة جديدة من الحروب الهجينة، حيث تُرسم خطوط النفوذ لا عبر المعارك التقليدية، بل عبر السيطرة على فضاءات العدو، والدور الإعلامي، والتحكم في حالة الأسواق، والتعبئة الرمزية، في ما يشبه "إعادة هندسة" لحالة التحالفات والتوازانات الأمنية والجيو سياسية في الإقليم.


المراجع

- Center for Strategic and International Studies (CSIS), The Iranian Way of War: How and Why Iran Uses Force, December 2022, https://csis.org.

- Vali Nasr, The Shia Revival: How Conflicts within Islam Will Shape the Future (New York: W. W. Norton, 2006).

 - Ynet News, “Cyber War Heats Up: Iranian Hackers Target Israeli Infrastructure,” Ynetnews, April–June 2024, https://ynetnews.com.

  - Ze’ev Schiff and Ehud Ya’ari, Israel’s Lebanon War, trans. Ina Friedman (New York: Simon & Schuster, 1984).

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس