
ترك برس
تناول تقرير للكاتب والخبير التركي نيدرت إيرسانال، قراءةً تحليلية تربط بين محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت منتصف شهر تموز/يوليو من عام 2016 ومسار تركيا نحو تعزيز استقلالها السياسي والعسكري والاقتصادي.
يستعرض الكاتب، في تقريره بصحيفة يني شفق، انطلاقًا من التحضير المبكر لهذه المناسبة، جملة من التطورات الراهنة: من الحرب الإيرانية–الإسرائيلية الجارية، إلى الحملات الأمنية ضد تنظيم غولن، وصولًا إلى نجاحات الصناعات الدفاعية التركية في التصدير إلى دول في حلف الناتو.
ويؤكد أن جوهر 15 تموز يكمن في "معركة الاستقلال"، محذرًا من محاولات مستمرة – خارجية وداخلية – لكبح إرادة تركيا، ومشددًا على ضرورة توثيق التجربة ونقلها إلى الأجيال القادمة حتى لا تتكرر الأخطاء ولا تُنسى التضحيات. وفيما يلي نص التقرير:
إن ملحقات صحيفة يني شفق الخاصة بيوم 15 تموز ـ بل لعلّ الأجدر أن نصفها بـ"صحف كاملة"، فذاك هو حجمها الحقيقي ـ لا تكتفي بمجرد التذكير. إنها تسرد معاناتنا، وتستحضر شهداءنا وجرحانا وبطولاتنا، وتسدي لنا النصح لـ"تظل الأمور حاضرة في أذهاننا". إنها تحفّزنا على أن نبقي "في الذاكرة" ما يجب ألّا يُنسى.
ويبدأ التحضير لصحف 15 يوليو/تموز التي تتمتع بهذه الجودة العالية من حيث المضمون والحجم قبل وقت طويل، وها أنا أكتب هذا المقال في 25 حزيران.
والسبب في إشارتي إلى ذلك، هو أنني أكتب وسط غبار الأحداث وتقلّبات المشهد العالمي؛ إذ بدأت الحرب بين إيران وإسرائيل، في يومها الرابع عشر، تميل نحو التهدئة، وإن كانت أجواؤها لا تزال هشة وقابلة للاشتعال. وبدأ اهتمام العالم يتجه نحو قمة قادة الناتو، حيث بدأت صور اللقاءات بين الرئيس أردوغان والرئيس ترامب تصل إلى الصحف، ويدور الحديث عن "ناتو جديد" و"هيكلية جديدة للأمن الأوروبي"، مع ما يصاحب ذلك من مطالب سياسية ومادية وتكاليف ثقيلة.
ولكن ثمة أخبار أخرى أيضًا..
فبالتنسيق بين النيابتين العامتين في إسطنبول وإزمير، نُفّذت عملية أمنية واسعة في 41 ولاية، استهدفت 176 عنصرًا من الكوادر العسكرية لتنظيم "غولن" الإرهابي، بينهم 174 مجندا في الخدمة الفعلية.
وبحسب ما ورد، فإن من بين هؤلاء 11 عقيدًا، و16 مقدمًا، و46 رائدًا، و27 نقيبًا، و5 ملازمين. إضافةً إلى طياري طائرات مسيّرة، وضباط مخابرات، وضباط ارتباط. كما نُفّذت عملية أخرى ضد هيكل التنظيم السري داخل جهاز الأمن، أسفرت عن اعتقال 21 شخصًا. لكن الأكثر إثارة للاهتمام هو بعض ما جاء في بيان النيابة العامة. وسأنقله بلغة الصحافة كما هو:
"ورد في بيان النيابة العامة أن هناك عناصر من تنظيم غولن تسلّلوا إلى داخل القوات المسلحة التركية، ولم يُكشف عنهم بالكامل بعد، مؤكدة أن التنظيم لا يزال يُمثّل أكبر تهديد للنظام الدستوري للجمهورية التركية وبقاء الدولة." (صحيفة ملييت، 25 حزيران)
صحيح أن معركة الدولة مع تنظيم غولن الإرهابي قطعت شوطًا كبيرًا، أصيب التنظيم فيها بجروح بالغة، لكنهم يواصلون الزحف مخلفين آثار دماء تسيل من جروحهم. فلا يزالون على قيد الحياة.
وهناك أخبار أخرى أيضًا...
تم توقيع اتفاق تفاهم بين شركتي "توساش" و"إيرباص" ووزارة الدفاع الإسبانية، لتصدير أول طائرة هجومية وتدريبية محلية الصنع "حُرجيت" والتعاون في إنتاج البنية التحتية اللازمة للطائرة في البلد الأوروبي.
أليس هذا خبرًا سارًا؟ ولكن الترجمة الحقيقية لهذا الخبر هي: "تركيا تبيع طائرة نفاثة لدولة عضو في حلف الناتو"
حين تُلقي بهذه الجملة على مسامع أي مواطن تركي تجاوز عمرًا معينًا ويهتم بالسياسة إلى حد ما، سيتوقف لبرهة ويفكر: بيع طائرة قتالية لدولة في حلف الناتو!
نحن سعداء بهذه البشرى، ولكن هل نتأمل ونتساءل من أين بدأنا وكيف وصلنا إلى هذه النقطة؟ وهل نفكر في معنى ذلك؟
هناك أمثلة أخرى كثيرة، ولكن سأذكر مثالا آخر يتزامن مع الطائرات:
تمكنت شركة STM الرائدة في مجال الصناعات الدفاعية البحرية في تركيا، من التفوق على بعض أبرز شركات بناء السفن البحرية والعسكرية في العالم، حيث فازت بمشروع مناقصة سفينة الدعم اللوجستي للقوات البحرية البرتغالية، سيتم تصميم وبناء سفينتين في تركيا، من قبل شركة STM. وهذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها تركيا بتصدير السفن العسكرية إلى الاتحاد الأوروبي ودولة عضو في حلف شمال الأطلسي من خلال شركة STM.
أعتقد أنني لست بحاجة للتنبيه إلى أي عبارة تحديدًا ينبغي التوقف عندها.
ولكن لماذا ندرج كل هذه التطورات، التي قد تبدو للوهلة الأولى شؤونًا منفصلة، في سياق مقال عن 15 تموز؟
لأن جوهر خيانة 15 تموز التي تعرّضت لها تركيا، وحساسية هذا الشعب الذي أوقفها بدمائه، تتلخص في كلمة واحدة.. الاستقلال.
إن النقطة التي بلغناها بعد سنوات من محاولة الانقلاب الفاشلة، هي ثمرة "بحثنا عن الاستقلال" الذي شرعنا فيه بمزيد من العزيمة والجهد، والإصرار، بعد عملية تنظيف داخلي. وهذا هو الموضوع الأهم. إنه جزء لا يتجزأ من "الوطن، والأمة، والعَلم".
إنه الإرث والوصية التي تركها لنا شهداؤنا في ليلة 15 تموز، وقبلها وبعدها.
والآن نصل إلى طرح مهم جدا..
إن الأمر لا يقتصر على الصناعات الدفاعية فحسب، وإن كانت هي الرمز الأبرز، ورأس الحربة في هذا المسار. بل نحن أمام مشهد تتحرك فيه تركيا لبناء "الهيكل الدفاعي" ليس فقط لحلف الناتو أو الغرب، بل لكل من يطلبها من دول العالم. إنه اقتصاد ضخم، وأحد أقوى أدوات الاستقلال في عالم اليوم.
والترجمة الحقيقية لهذا هي: "أن نقدّم اليوم، إلى الدول التي قدّم جنودنا أرواحهم فوق أراضيها، تقنياتِنا الدفاعية، بل وصناعتنا العسكرية المتقدمة إليها"
هنا يكمن "التغيير".
ولكن دون أن ننسى الدروس التي تعلمناها.
في العموم، جميع الطاولات التي نجلس عليها، وكل المفاوضات التي نخوضها — وخاصةً مع الغرب عبارة عن "مقايضة وتبادل سلع وخدمات"
لكي تكون النتائج في صالحك، لا بدّ من توفّر الظروف المناسبة والبيئة الملائمة، بل ويجب صنعها وصياغتها أحيانًا. حينها فقط تظهر النتائج المثلى والمكاسب الحقيقية.
منذ خمسينيات القرن الماضي، وجميع الدول التي أقامت علاقات مع تركيا حملت في ذاكرتها، وفي وعيها الباطن، وفي ردود أفعالها، نمطًا واحدًا: محاولة خنق هذا البلد وتطويقه وإخضاعه والتفاوض معه كما لو أنه لم يبرح موقعه القديم، متمسكين بالصورة القديمة وكأن شيئًا لم يتغير، وهدفهم الأساسي كان وما زال كسر شغفنا بالاستقلال أو تأجيله وإرجاؤه.
لقد فعلوا كل شيء لتحقيق ذلك، وسيستمرون في فعله. وهذا هو ملخص كفاحنا المستمر لعقود ضد التنظيمات الإرهابية، وهو سبب عدم وضع الحرب الاقتصادية أوزارها، وكذلك سطحيّة حياتنا الثقافية والاجتماعية. لقد كان هذا الهدف الأساسي والنهائي للعقل المدبر الذي دفع بنا إلى أحداث 15 يوليو.
ولهذا السبب بالذات، وعلى أعتاب عالم جديد، وفي ظل "ظروف" جديدة، يجب على تركيا أن تتقدم بخطى ثابتة، ومحصنة، وواثقة من نفسها، ذات سياسة خارجية "قوية ومتماسكة"، ونابضة بالحياة، والأهم من ذلك "متحدة"، وأن تتحسس دائمًا موطئ قدمها في طرق اغتنام الفرص التي تتاح لها.
ومن أوجه القصور التي لا بد من تداركها، غياب الطرق والوسائل الفاعلة لنقل هذه التجارب والحقائق إلى الأجيال الجديدة. فلو كان من بلغ الأربعين اليوم لا يملك إلا تصوّرات ضبابية عن كيف ولماذا انزلقت البلاد في تسعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى ظلمة الإرهاب، وعن ثغراتنا آنذاك والجهات التي استغلتها، فكيف سيكون الحال بعد سنوات بالنسبة لدروس 15 تموز؟
لذا تذكّروا هذه الآلام ولا تنسوها. ثم انقلوها وورثوها لأبنائكم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!