
ترك برس
تناول تقرير بصحيفة يني شفق التركية للكاتب والإعلامي طه قلينتش، الجانب المغيّب من آثار عملية "طوفان الأقصى"، مسلطًا الضوء على الانهيار النفسي والمعنوي المتصاعد داخل صفوف الجيش الإسرائيلي، والذي تجلى في ارتفاع غير مسبوق في حالات الانتحار، واضطرابات ما بعد الصدمة، والإعاقات الدائمة بين الجنود العائدين من غزة.
ويعتمد التقرير على معطيات وإحصائيات من مصادر إسرائيلية لتوضيح حجم الأزمة، كما يقارن بين النفسية المتماسكة للمقاتل الفلسطيني المدافع عن أرضه، وبين التفكك النفسي العميق للجنود الإسرائيليين المعتدين.
ويخلص الكاتب إلى أن فهم المسار الحقيقي للصراع يتطلب النظر إلى الانهيارات التي يعيشها الاحتلال داخليًا، وليس فقط إلى الخسائر في الجانب الفلسطيني. وفيما يلي نص التقرير:
منذ انطلاق طوفان الأقصى، كنت أؤكد على ضرورة أن يُؤخذ بعين الاعتبار ما يمرّ به الطرف المقابل – أي الجانب المعتدي والمحتل، وهو إسرائيل – بالتوازي مع خسائر الفلسطينيين في غزة، فإغفال هذا الجانب سيحول دون فهم الأبعاد التاريخية والجغرافية للعملية.
فعلى سبيل المثال، هناك ظاهرة قد لا يلاحظها إلا من يتابع التفاصيل بدقة: لقد وصلت حالات الانتحار بين الجنود الإسرائيليين بسبب الصدمات التي عاشوها في غزة إلى أعلى مستوياتها في تاريخ الجيش. فإدارة الجيش في حالة تأهب مستمر لكنها عاجزة عن إيجاد حلول. ووفقًا لتقارير وسائل الإعلام الإسرائيلية، انتحر خلال النصف الأول من عام 2025، ما لا يقل عن 18 جنديًا عادوا إلى أماكن إقامتهم بعد انتهاء مهامهم في غزة، نتيجة عجزهم عن الخروج من الأزمة النفسية التي عاشوها. وفي عام 2023 انتحر 17 جنديًا، وفي 2024 انتحر 21 جنديًا، ما يشير إلى تصاعد مستمر في هذه الحالات.
كما أظهرت التقارير أن آلاف الجنود الإسرائيليين تم تشخيصهم باضطراب ما بعد الصدمة، في حين بلغ عدد الجنود الإسرائيليين الذين أصيبوا بإصابات وإعاقات دائمة في غزة الآلاف أيضًا.
وحتى قبل طوفان الأقصى كان الانتحار يحتل المرتبة الأولى بين أسباب وفاة الجنود الإسرائيليين. فقد أشار تقرير صادر عام 2022 إلى أنّ 11 جنديًا من بين الذين لقوا حتفهم أثناء تأدية واجبهم في العام السابق قد انتحروا، كما أشار التقرير إلى أنّ بعض الجنود الذين سُجلت وفاتهم كـ"حوادث" قد تكون في الواقع حالات انتحار. وتكشف التقارير عن انتشار واسع للعنف الجسدي والتحرش والتنمر داخل الجيش الإسرائيلي، كما أن بعض المنتحرين ينتمون إلى يهود الفلاشا الإثيوبيين الذين يتعرضون للإذلال ويواجهون تمييزاً عنصرياً ممنهجًا من قِبل بقية اليهود.
لكن طوفان الأقصى، دفع الانتحار الذي كان يحتلّ المرتبة الأولى بين أسباب الوفاة، إلى مستويات بات من المستحيل إخفاؤها. وتشير بعض التقارير الإعلامية الإسرائيلية إلى أنّ عدد الجنود الذين يحتاجون إلى علاج نفسي جراء ما تعرضوا له من صدمات نفسية أو إصابات في غزة يبلغ حوالي 14 ألف جندي.
أحد الجنود الإسرائيليين الذين انتحروا بعد عودتهم من غزة هو إليران مزراحي، الذي كان يعيش في مستوطنة "معاليه أدوميم" اليهودية قرب القدس. مزراحي، الذي كان ناشطًا على وسائل التواصل الاجتماعي، كان ينتشي فرحاً وهو يتوجه إلى غزة لقتل الأطفال الفلسطينيين، ثم عاد منها محطماً وغارقاً في أزمة نفسية عميقة. مكث مزراحي 187 يوماً في غزة، وقد أُعيد إلى إسرائيل لتلقي العلاج بعد إصابته في ركبته. وخلال فترة تعافيه، تزايدت أزماته النفسية، وأصبح منعزلًا تمامًا عن زوجته وأطفاله، وكان يستيقظ ليلا على كوابيس، وقطع كل تواصل مع محيطه. وفي السابع من يونيو 2024، انتحر مزراحي البالغ أربعين عاماً، قبل يومين فقط من موعد إعادته إلى غزة.
يعجز اليهود - الذين يظنون أنفسهم "شعب الله المختار" ويحتكرون "الوعود الإلهية" لأنفسهم - عن تفسير المستنقع الذي غاصوا فيه بغزة. فصور النساء والأطفال الفلسطينيين الذين قتلوهم بلا رحمة، تهبط على أجساد الجنود اليهود كوابيس تقض مضاجعهم. ولأن مفهوم "الإيمان بالآخرة" في اليهودية الحالية قد اختلط بالجشع الاقتصادي وسياسات الاحتلال الإسرائيلية، وحُوّل إلى مجرد منافسة دنيوية على التفوق، فإن الضرر الذي أحدثته الصهيونية في الشريعة والعقيدة اليهودية هائل. إنه تشويه متجدد لدين محرف أصلاً، يمثل عملية مدمرة ومفككة لنفسية اليهود. لم يعد التفوق العسكري الإسرائيلي ووحشيته وتهوره كافيين لإخفاء هذا التفكك الكامن تحتها.
ويستحيل مقارنة نفسية أنس الشريف، الذي دافع عن وطنه بشرف وكرامة وإيمان حتى آخر قطرة من دمه، بنفسية إليران مزراحي، الذي هرع لغزة ليحتل بوحشية أرض شعب بريء ومضطهد. الفرق بينهما هائل لا يخفى على أحد، وهذا ليس خاصا بالمسلمين وحدهم، بل يدركه العالم بأسره. وحتى ردود أفعال الفلسطينيين الإيجابية في غزة تجاه الموت فتحت طريق الهداية للآلاف في الغرب ولا تزال تفعل.
ولذلك عند تابعة أحداث "طوفان الأقصى"، أقترح أن نلقي نظرة واسعة على إسرائيل إلى جانب غزة، فالجزء المفقود من الصورة لفهم مسار الأحداث الصحيح يكمن في ذلك الجانب.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!