ترك برس

قدم السياسي والبرلماني التركي السابق ياسين أقطاي، نقدًا لتصريحات المؤرخ التركي إلبر أورتايلي المتعلقة بقضية اللاجئين السوريين والهوية التركية، مسلطًا الضوء على تحريفه لكلامات حقيقية وسوء توظيفه لمعرفته التاريخية في قضايا سياسية معاصرة.

يتناول أقطاي في تقرير بصحيفة يني شفق تأثير مواقف أورتايلي على النقاش الوطني حول الهوية التركية والموقف من اللاجئين، ويؤكد على أهمية فهم الهوية التركية كهوية وطنية مركبة، بالإضافة إلى رفض الادعاءات السطحية التي تطعن في مقاومة الفلسطينيين لأراضيهم.

وفيما يلي نص التقرير:

ها هي قضية اللاجئين والمهاجرين تعود إلى الواجهة مجددا ومعها قضية الهوية التركية، ويطلّ علينا من جديد الدكتور إلبر أورتايلي أحد أشهر المؤرخين وأكثرهم شعبية وتسلطا صاحب العلم الغزير والمعرفة الواسعة. هذه القضية في الواقع كانت قد تراجعت عن صدارة المشهد في الآونة الأخيرة، ولا سيما بعد التحولات المفاجئة في سوريا، حيث أطاح الشعب السوري بسلطة الأسد الممتدة لأربعة وخمسين عامًا وبنظام البعث الدكتاتوري المستمر منذ ستين عامًا. ومع بدء عودة السوريين في تركيا إلى ديارهم بوتيرة متسارعة، أخذت ورقة "اللاجئين" تفقد بريقها كمصدر دخل سياسي لطالما استثمر فيه البعض.

غير أن أورتايلي، وقبل وقوع هذا التغيير بفترة وجيزة، أدلى بتصريح فاضح إلى درجة أننا نخجل من ذكره اليوم باسم تركيا: "أعتقد أنه يجب ترحيل اللاجئين. فكيف أجعل من جماعة لم تدافع عن وطنها مواطنين؟ ثم إن تركيا ليست جنّة وارفة الظلال. وغدًا سأكون مضطرًا لإدخال هؤلاء إلى الجيش، فهل سأكون قادرًا على ذلك؟" إن هذه الكلمات، الصادرة عن شخص هو نفسه من أصول مهاجرة، لجأ أجداده ذات يوم إلى تركيا، لا يمكن أن تُوصف إلا بأنها طائشة، وقبل كل شيء، تنمّ عن جهلٍ فادح.

لكن هذا "الجهل" لا يتعلق بنقص المعلومات، بل بالموقف والنهج والأسلوب. فالمعرفة والمعلومات التي يمتلكها أورتايلي قد لا ينازعه فيها أحد، لكن المشكلة في الطريقة التي يوظّف بها هذا المخزون الهائل من المعلومات. إذ يُسخّره للأسف بطريقة جاهلة، وغير صائبة، وغير مسؤولة. ولو اكتفى بالتأريخ وكتابة صفحات الماضي لما وجدنا حرجًا في سلطته المعرفية. لكن حين يستند إلى رصيده العلمي ليمنح نفسه صلاحية الإفتاء في كل قضية، حتى في مجالات لا دراية له بها، يتحول حضوره إلى صورة متعجرفة ومنفرة، حيث يُطلق الأحكام المسبقة في كل قضية فيقطع سبل الحوار، ويخنق النقاش بكلمتين قاطعتين، ويحوّل مجلسه إلى فضاء خانق لا يُحتمل.

قبل عام كامل من اندلاع الثورة السورية، كان أورتايلي يتحدث عن ضرورة ترحيل اللاجئين، غير عابئٍ بمصيرهم. وبعد أربعة أشهر فقط من سقوط النظام، أظهرت مجازر سجن صيدنايا وتدمر وحلب وغيرها بأبشع الصور ماذا كان ينتظرهم لو عادوا. لقد شاهد العالم أجمع ما حلّ بمن عاد إلى سوريا طوعا أو تحت الإكراه، إذ لم تُسجَّل حالة واحدة عاد فيها شخص سالمًا، بل لقي الكثيرون منهم حتفهم تحت التعذيب الوحشي في أقبية تلك السجون. ولو قُدِّر لسياسة تُبنى على تصورات عالم بهذه المعرفة الواسعة أن تُطبَّق، لكانت نهايتها إبادة جماعية لا قدّر الله. والحمد لله أن بلدنا لم تنجر وراء هذا الخطاب الأعمى، وفي النهاية كانت تركيا هي الرابحة.

وفي الوقت الذي هزّت فيه المقاومة البطولية في غزة التوازنات السياسية والفكرية على مستوى العالم، كان الأجدر بهذا المؤرخ أن يذكّرنا بتاريخ غزة الحافل بالبطولات والملاحم، وكيف أن أهلها صدّوا ببسالتهم هجمات البريطانيين مرتين خلال الحرب العالمية الأولى، قبل أن يتمكن البريطانيون من احتلال غزة في المرة الثالثة. إن إلقاء الضوء على مثل هذه الصفحات كان من شأنه أن يساعدنا على فهم ما يجري اليوم بشكل أفضل. غير أن مساهمة مؤرخنا المتعالي لم تتجاوز العبارة المستفزة: "الفلسطينيون باعوا أرضهم، وهم معروفون ببيع الأرض." وهي مقولة يدرك الجميع أنها افتراء سافر بحق شعب يخوض منذ أكثر من عامين مقاومة أسطورية كي لا يتنازل عن شبرٍ واحد من أرضه للاحتلال الإسرائيلي. فكيف غابت هذه الحقيقة عن صاحب المعرفة التاريخية الواسعة؟

وقد سبق أن تناولتُ هذه القضايا من قبل، لكنّ ما دفعني إلى إعادة التذكير بها اليوم هو تهجمه الوقح وغير اللائق في مقاله أمس. وأصفه بذلك لأنه في سياق جداله مع أورهان مير أوغلو وجد ذريعة ما ليتطاول عليّ. والحق أن تهجمه لم يكن عليّ وحدي بل تطاول على الكثيرين تباعًا: أورهان مير أوغلو، ومحسن قزل كايا، ويلدراي أوغور..

لقد ربط أورهان ميروغلو وسرّي صاكاك اقتراح جلب الأويغور إلى بعض القرى الخالية لحل مشاكلنا الزراعية بمواقفهم السابقة، ولن أخوض في هذا. ولكن في خضم هذا الجدل ما سبب الإشارة علنا وبطريقة مُضللة ومُحرّفة إلى ما قلته أنا قبل 12عامًا عن الهوية التركية؟

لقد قال إيلبير أورتايلي "انحدر ياسين أكتاي في إحدى مقالاته إلى مستوى من الرخص والوقاحة حين قال إن 'الهوية التركية' لا معنى لها، وإنها تعريف مبهم."

فلنطرح السؤال فورًا: كيف يمكن الوثوق بمعرفة تاريخية لمؤرخ كبير يعرف الكثير عن التاريخ، إذا كان يحرف كلامي إلى هذا الحد؟ أنا لم أقل أبدًا، ولا يمكن أن أقول، إن "التركية لا معنى لها" أو أنها "تعريف مبهم"، وحتى لو وضعنا كل العوامل جانبا فإن هذه العبارة تتناقض تمامًا مع مجموع خبرتي العلمية والاجتماعية والتاريخية والفلسفية على مدى سنوات طويلة.

ما أشار إليه في الحقيقة يعود إلى نقاش أجري قبل 12 عامًا في برنامج فاتح ألتايلي، حين ناقشت مسألة الهوية التركية مع جلال شينغور، الذي يعتقد بنظرية التطور التي تقول إن الإنسان أصله قرد، وقلت حينها إن "الهوية التركية ليست عرقًا، بل هوية وطنية وإثنية مركبة". وأذكر شينغور تحديدًا لأنه يرى أن الهوية البيزنطية أسمى من التركية، وأن كل الأعراق أصلها قرود، وقد دخل في نقاش معي حول هذا. أما أنا، فلم أنكر "التركية" أبدًا، بل أكدت وجودها كحقيقة تاريخية ومعاصرة، وذكرت أن فهمها اليوم يتجاوز مفهوم العرق ليشمل الهوية الثقافية والوطنية. وليس فقط التركية، بل الكردية، والعربية، والفرنسية، والألمانية ليست أعراقًا بحد ذاتها، فلا وجود لعرق يسمى عربيًا أو كرديًا أو فرنسيًا. وعلم الأنثروبولوجيا يرفض عمومًا مفهوم العرق البشري. وما قلته هو حقيقة علمية يعرفها كل من لديه معرفة بسيطة بالأنثروبولوجيا، وهدفي من قول ذلك لم يكن إنكار الهوية التركية بل تأصيلها على أسس علمية صحيحة، كما فعل القوميون الأتراك المشهورون أمثال ضياء غوك ألب، ورمزي أوغوز أريك، وإيرول غونغور.

لقد قام أورتايلي، ومعه المشاركون الآخرون في البرنامج، يومها بتحريف كلامي مع علمهم التام بما قصدته، وها هو اليوم يزيده تحريفًا، ولا يكتفي بذلك، بل ينحدر إلى درك الوشاية البائسة عبر تقديم تقارير كاذبة إلى حزب العدالة والتنمية، والأكاديمية التركية للعلوم. والأدهى أن ألتايلي نفسه قد احتجّ عليّ في البرنامج ذاته قبل 12 عامًا مستشهدًا بكتاب جان بول روو «تاريخ الأتراك» كدليل على وجود الأتراك، فرددتُ عليه قائلًا: كيف تجعلون من كتاب لم تقرؤوه حجة عليّ؟ إذ إن روو يذكر في الصفحتين 29 و30 من الكتاب ما قلته أنا بالضبط، حيث لم ينكر الوجود التركي، بل وضع الهوية التركية على أسس أمتن وأكثر صلابة.

فإذا كان مؤرخ مثل أورتايلي يشوه تاريخ اليوم، متأثرًا بجدالاته العبثية التي يخوضها، وينساق وراء رغبة في الكلام، فكيف يروي لنا أحداث الماضي؟ وما هي أحكامه المسبقة ومشاعره التي قد تؤثر على روايته؟ وسأختتم هنا بذكر ما قلته عنه سابقًا:

"لا أظن أن أحدًا يشك في سعة معرفته، ولكن من الواضح أنه يسيء استخدام سلطته التي اكتسبها من هذه المعرفة وأسلوبه الخاص. ولو أنه عرض ما يعرفه بصدق وشجاعة، لقدَّم لنا تاريخا مختلفًا تمامًا عما يرويه اليوم أو يعرضه وفق ما يطلبه جمهوره. لكنه لم يجرؤ يومًا على فعل ذلك، ولم يكشف كل ما يعلمه، بل اكتفى بأن يمثل، بمعرفته وسلطته، عقول المراهقين في القاعات التي تستضيفه، والسلطة التي تأتي من هذه العقول. ولم يُكلف نفسه حتى عناء توظيف السلطة التي وفرتها له معرفته في إيقاظ عقول هؤلاء المراهقين. أما عبارته عن "بيع الفلسطينيين لأراضيهم"، فليست نتاجًا لمعرفة تاريخية راسخة، وإنما مجرد استجابة سطحية وتجارية لمطالب يومية تفرضها أذواق ذلك السوق المراهق."

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!