
ترك برس
في تقرير بصحيفة يني شفق، تناول الكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، مرور عامين على عملية "طوفان الأقصى"، مبرزًا كيف تحوّلت من هجوم عسكري مفاجئ إلى ملحمة مقاومة تاريخية قلبت موازين الصراع مع إسرائيل، وكشفت هشاشة تفوقها العسكري رغم وحشيتها.
يركّز أقطاي على تطور الوعي العالمي تجاه القضية الفلسطينية بعد هذه العملية، وعلى فشل إسرائيل في تحقيق أي نصر حقيقي رغم الدعم الأمريكي اللامحدود. كما يناقش التقرير أبعاد "خطة ترامب" التي سعت إلى تحويل الهزيمة الميدانية إلى مكسب سياسي لإسرائيل.
ويوضح الكاتب كيف نجحت حماس بردٍّ دبلوماسي ذكي في قلب الموازين مجددًا، وتحويل المأزق إلى انتصار سياسي وأخلاقي جديد، مؤكدة أن قرار غزة هو شأنٌ فلسطيني خالص، وأن المقاومة تمثل اليوم ضمير الأمة ووجدانها. وفيما يلي نص التقرير:
يصادف يوم السادس من أكتوبر الذكرى الثانية لبدء عملية "طوفان الأقصى"، عامان كاملان لم تتمكن فيهما إسرائيل ـ رغم امتلاكها أحد أكبر الجيوش في العالم ورغم تفوقها العسكري والتقني واستخدامها أقصى درجات العنف والوحشية ـ من إخضاع كتائب القسام التي أقصى ما لديها من الأسلحة قذائف "ياسين 105". عامان من المقاومة الملحمية التي سطرها مجاهدو حماس، والذين أظهروا للعالم كله أن سلاحهم الأكبر هو الإيمان الذي يحملونه في صدورهم ضد هذا الجيش الهمجي.
لم تكن عملية "طوفان الأقصى" عملاً عشوائياً بلا مبرر أو مغامرة دموية أقدم عليها مجاهدو حماس بدافع سفك الدماء، بل كانت ردًّا مشروعًا على عدوان الاحتلال المتواصل منذ خمسةٍ وسبعين عامًا، والذي يتصاعد خطوة بخطوة كل يوم. ربما كانت المقاومة الفلسطينية تقدم ردوداً يومية على سياسات الاحتلال هذه في السابق، لكنها كانت ردودًا عابرة ومحدودة التأثير.
إن ما ميّز "طوفان الأقصى" هو أنه نقل المعركة لأول مرة إلى عمق أراضي المحتل الإسرائيلي. وقد قيل للمقاومة إن القيام بذلك هو بمثابة انتحار، وإنهم بذلك "استحقوا" الغضب الإسرائيلي الحتمي. إن صدور هذا القول ممن ظلوا لسنوات يشاهدون ويدينون الاعتداءات الإسرائيلية بشكل يومي، يظهر أن جوهر القضية الفلسطينية، والظلم المتأصل لدى الاحتلال الصهيوني، لم يُفهم بشكل كافٍ حتى من قبل بعض المسلمين أنفسهم.
لقد حوّل الاحتلال الإسرائيلي ـ بخطواته اليومية المتكرّرة ـ جرائمه الوحشية إلى روتين اعتياديٍ مقيت، حتى غدت المجازر البربرية التي تُرتكب بحق الأبرياء والأطفال أمورًا مألوفة. فالإنسان بطبعه يألف كل شيء، حتى الفظائع. ومع مرور الزمن، تُصبح المأساة جزءًا من الحياة اليومية، بل قد يُنظر إلى من يثور ضدها على أنه هو من يُعكّر صفو الراحة العامة. لكنّ الصمت أمام الجريمة لا يجلب الطمأنينة، بل يُعمّق الانهيار الأخلاقي للإنسانية جمعاء. فحين يُترك الظلم ليستفحل، يُفتح الباب أمام عصابة إرهابية، حكمت الناس وسلبتهم إنسانيتهم، ولا تتورّع في أن تبطش بأرواحهم وأعراضهم وأوطانهم وكرامتهم في أي لحظة.
يتصرف البعض وكأن مجاهدي حماس، الذين أظهروا الشجاعة في مواجهة بلطجة إسرائيل، لم يعرضوا شعبهم للخطر فحسب، بل عكّروا صفو العالم بأسره، في حين أن غزة كانت تموت ببطء كل يوم، فجاء مقاتلو القسام ليضعوا هذه المأساة أمام ضمير العالم الذي بات لا يُبالي، ودفعوا حياتهم ثمنًا لإيقاظ البشرية وتحذيرها من الخطر العظيم الذي يهددها جميعًا.
واليوم، نشهد صحوة في جميع أنحاء العالم. فالناس بدؤوا يدركون كيف استعبدتهم الأنظمة المهيمنة التي تحكمهم أو تتحكم بعوالمهم، وكيف أهانتهم، فثاروا في وجهها، وأخذوا يُظهرون بوادر حياةٍ جديدة لأنفسهم، وفي الوقت ذاته باتوا يُدركون الظلم الذي تتعرض له غزة وفلسطين منذ خمسةٍ وسبعين عامًا، فبدؤوا في التضامن معها.
وبعد نضالٍ استمر لعامين، أصبحت غزة اليوم قضية العالم أجمع. فقد أخذت إسرائيل تفقد امتيازاتها التي حظيت بها منذ تأسيسها واحدة تلو الأخرى، واستنزفت كل التعاطف الذي راكمته عبر وسائل الإعلام والثقافة والسياسة. ورغم كل الدعم الأمريكي، الذي استثمر الكثير في إسرائيل، فقد تكبّدت في الحرب خسائر فادحة لا تُحصى، إذ لم يعد ممكناً حصر أعداد قتلاها وجرحاها والمصابين باضطرابات نفسية أو من أقدموا على الانتحار أو تركوا الخدمة وفرّوا من إسرائيل. أمّا العجز عن هزيمة حماس طوال عامين، فقد خلق في نفوس الإسرائيليين إحساسًا بالهزيمة لا يُقدَّر بثمن، وجعل خسائرهم تفوق كل حساب.
وخلال الأسبوع الماضي، بدت التطورات التي سُميت بـ "خطة ترامب" وكأنها ستعوض الخسائر التي تكبدتها إسرائيل في ساحة المعركة، ولكن على طاولة المفاوضات. وساد غرور كبير وسُكر بنشوة النصر في جبهة نتنياهو، مقابل تشاؤم مطبق في الجبهة الفلسطينية. وبدت حماس كأنها محاصرة في الزاوية، رغم المقاومة الأسطورية التي أبدتها لعامين. فالخطة تطرح على حماس خيارين: إما الاستسلام وتسليم أسلحتها مقابل حياة من تبقى من سكان غزة، وترك غزة تحت إدارة قوات أجنبية، أو اعتبارها طرفاً عنيداً يرفض السلام.
أفكان هذا حقًّا ما ينبغي أن تؤول إليه قمة زعماء الدول الإسلامية التي شارك فيها الرئيس الأمريكي والرئيس أردوغان؟ إن احتمال أن تُفضي هذه السلسلة من المساعي الدبلوماسية إلى مثل هذا المصير بدا وبحق، هراءً مخيّبًا للآمال ومُحبطًا لكامل المسار. وحتى قبل الإعلان عن أن الخطة بعيدة كل البعد عما نوقش وتم التوافق عليه في قمة الدول الإسلامية، اتهم الكثيرون الدول الإسلامية "بخيانة غزة".
لكن ردّ حماس، بعد أيامٍ من التداول والمشاورات المكثفة، قلب المشهد رأسًا على عقب. إن الخروج من هذا المأزق بمناورة ذكية بل ورائعة إلى هذا الحد يُمكن اعتباره حلقة انتصار جديدة أو صفحة ذهبية أُضيفت إلى سلسلة النضال الملحمي الممتد منذ عامين.
بدأت حماس ردها بقبول تسليم الأسرى كأهم عنصر في خطة ترامب، ووجهت الشكر لترامب ولكل من ساهم في عملية السلام، إلا أنها أضافت: "ولكن لتسليم الأسرى، يجب أن نكون قادرين على الوصول إلى الأماكن التي يتواجدون فيها، وهم تحت القصف المستمر". ولتحقيق ذلك لا بد من إعلان وقف إطلاق النار فوراً.
وعندما أعلن ترامب على حسابه الرسمي بأن " حماس مستعدة للسلام"، فقد اعترف رسمياً بحماس كطرف مفاوض. إن الشرط الذي بدأ بـ "ولكن" في رد حماس يحمل من الصلاحية ما يفتح لها باباً جديداً للتفاوض، ويُفضي إلى نتيجة تجعل نتنياهو يخسر كل شيء في سعيه للحصول على مكاسب ضئيلة.
وكما فرّقت حماس في ردّها بذكاء بين ما تمتلكه كحركة ولها حق اتخاذ القرار بشأنه، وبين الحقوق الوطنية التي لا يمكن إلا للشعب الفلسطيني تقريرها. فقد وافقت على إطلاق سراح الأسرى، لكن ربطت ذلك بإنهاء الحرب، ورفض احتلال قطاع غزة، ومنع التهجير، وضمان وصول المساعدات الإنسانية. وفي الوقت نفسه، تجاوزت ببراعة الخطة التي تفترض وصاية دولية، وأدرجت الدول العربية في العملية، وحمّلتها مسؤولية دعم السلطة الفلسطينية في غزة عقب انتهاء الحرب مباشرة.
لم تكن حماس تطمح لإدارة غزة، لكنها أعادت التأكيد في سياق لا يمكن الاعتراض عليه على أن إدارة غزة هي أيضاً شأن يخص الإرادة الشعبية الفلسطينية، وجزء من حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
وهكذا، شجعت حماس جميع مكونات الشعب الفلسطيني لتكون شريكاً حقيقياً في عمليات اتخاذ القرار المتعلقة بفلسطين. تقود حماس المقاومة، ولكنها وجدت فرصة أخرى لتؤكد أنها لا تفرض وصايتها على الشعب الفلسطيني، الذي هو صاحب الحق الأصيل في تقرير المصير واتخاذ القرار الوطني.
في الواقع، حماس كمنظمة لا تحتاج إلى ذلك على الإطلاق. فالشعب الفلسطيني اليوم هو حماس، وحماس هي فلسطين.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!