
ترك برس
استعرض تقرير للكاتب والخبير التركي نيدرت إيرسانال، تجربة أسطول الصمود كمبادرة مدنية دولية كبرى لكسر الحصار الإسرائيلي عن غزة، مسلّطًا الضوء على تأثيرها الرمزي والسياسي العالمي.
يروي الكاتب في تقريره بصحيفة يني شفق، كيف أثبتت هذه المبادرة أن القوة الشعبية والإرادة المدنية يمكن أن تهزّ الاحتلال الإسرائيلي وتكشف عن هشاشته، رغم التفوق العسكري والدعم الدولي الواسع لإسرائيل.
كما يناقش الدور الجيوسياسي للدول الكبرى والإقليمية مثل باكستان وتركيا وقطر في هذا السياق، ويبرز كيف أن المبادرات المدنية غير الموالية للدول أظهرت أن التغيير ممكن، وأن السياسة الأخلاقية والضمير العالمي يمكن أن يوجها الضغط على القوى الاستعمارية.
وفيما يلي نص التقرير:
إذًا.. يبدو أن ذلك ممكن
أثبتت مجموعة من المدنيين السلميين بالكامل، لا هدف لهم سوى احتضان الفلسطينيين، قدموا من عشرات الدول (رغم أن بعض حكوماتهم لا تشاطرهم الرأي)، أثبتوا للعالم أجمع أنه يمكن كسر الحصار الإسرائيلي، وأنه يمكن للمجرمين القتلة أن يُصابوا بالعجز.
لقد أثبتوا ذلك، لكن هذا التعبير يبدو "لطيفاً" مقارنة بما حدث.
في يومي الأربعاء والخميس الماضيين بقيت نقطة واحدة على خرائط الملاحة تخترق صفوف البحرية الإسرائيلية وتتجه نحو المياه الإقليمية لغزة. كان من المرجح أن يتم اعتراضها، وهذا ما حدث، لكنها تحولت في تلك اللحظة إلى السفينة الرئيسية للجميع. رسالة تلك "النقطة" لا يمكن أن تكون موجهة لإسرائيل وحدها. فلقد صفعت تلك النقطة الوامضة 193 دولة على وجوهها صفعة تردد صداها في جميع أنحاء المعمورة.
وإلا فماذا لو بصقنا في وجه إسرائيل؟ هل كنا نظن أنها ستندم عند رؤية أسطول الصمود؟ لا. ولكن الأسطول أظهر أن إسرائيل يمكن أن تُترك عاجزة. لقد قلنا جميعاً: "لو كانت 100 سفينة و 1000 شخص، لتشتتت قواهم."
وفي هذا السياق لم يعتبر الأسطول إسرائيل كياناً يستحق الاهتمام، ولم ينتظر ليرى ما إذا كانت "دول العالم تدعمه". لقد وجه الأسطول نداءه إلى الرأي العام العالمي، أي إلى أصحاب الضمائر.
لماذا نكتب هذا؟ في بداية الأمر، وقبل أن تُسفك دماء ما لا يقل عن 65 ألف بريء جراء الإبادة الجماعية الإسرائيلية، لو أن 30 أو 40 زعيماً فقط من قادة الدول المجتمعة تحت مظلة المنظمات الدولية البارزة كانوا قد تجمعوا وتوجهوا إلى أبواب غزة، بمفردهم ودون حماية، لكانت مئات بل آلاف وسائل الإعلام قد نقلت الخبر للعالم. حينها، لم يكن هناك حاجة لتقديم الشكر لهم، فبمجرد دخول كل واحد منهم، كانت إسرائيل ستسقط سياسياً.
هذه هي صفعة "الصمود". هل يُعقل أن نعقد اجتماعات للتساؤل "عما يُمكن فعله" ضد إسرائيل التي شربت من دماء الأطفال وقتلت "كل الإنسانية"؟ ما دام الخوف من تدخل أمريكي قد حال دون طرق أخرى للتدخل، فهذا ما يمكن القيام به فقط. وثقوا بأن إسرائيل كانت سترتدع. إن نصائح الذين نادوا بـ"السياسة الواقعية" لم تنجح قط، أما "السياسة الأخلاقية" فقد نجحت..
وبينما كان أسطول "الصمود" يُبحر نحو فلسطين، كان البعض في البث المباشر لقنواتنا المحلية ما زالوا يطالبون بـ "ضرورة إقامة حوار دبلوماسي بين تركيا وإسرائيل"، وكان هناك من يقول أثناء صعود الجنود إلى السفن: "إسرائيل درست الموقف جيداً جداً". أليست هذه حقيقة؟
قد يبدو ما سأقوله اتهامًا قاسيًا، لكنه الحقيقة المرة: كان من الممكن وقف هذه المجزرة. وإذا لم يتم إيقافها، فعلينا أن نعترف بأن المشكلة بنيوية. ولا يمكن حلّ المشاكل البنيوية بالطرق والأسس التي أنشأتها هي نفسها. ولا يمكننا أن نتوقع أن تتحسن الأمور أو أن لا تتكرر المآسي دون إجراء تغييرات جذرية في النظام العالمي.
إذا تصرفنا بهذه الطريقة، فإنهم سيعملون على توسيع مخططاتهم الأسوأ (وفلسطين ليست سوى أرض صغيرة وجزء تقليدي من هذه الخطة)، سيوسعونها إلى الإطار الجيوسياسي، ثم يستولون على أراضيكم التي تملكون سند ملكيتها من الأمم المتحدة.
ويمكن الكشف عن الخطة الغربية من خلال مستويات متعددة:
يمكنكم ربط التطورات والأحداث الحالية لخلق سياق زمني متكامل. ويمكنكم بناء نفس العقلية عبر النظر في قضايا المياه والنفط والغاز الطبيعي والطرق. على سبيل المثال، يمكنكم دراسة اتفاقية الطاقة بين أذربيجان وسوريا، والنظر فيما إذا كانت ستلتقي بالنتيجة التي سيصل إليها اتفاق سوريا وإسرائيل، ومن خلال تناول جميع الخطوات المماثلة بانضباط الماراثون يمكنكم قراءة العقلية العالمية.
أو كمنهج آخر، يمكنكم تحديد البلدان البارزة في سياق العملية وربط علاقاتها ببعضها على الخريطة، ومقارنة اتجاهاتها وأهدافها مع أهداف الجهات الفاعلة الكبرى.
دعونا نختار مثالاً ونجربه.
عندما ننظر إلى الدول التي تحظى باهتمام خاص في المنطقة، وتحديداً من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، يمكننا وضع قائمة مختصرة تشمل: تركيا، وقطر، وباكستان. وهناك دول أخرى بالطبع، مثل سوريا أو أذربيجان. إلا أن اللافت أن اسم مصر — التي تُعدّ «نصف العالم العربي» وتشغل موقعًا محوريًا في قضية فلسطين وإسرائيل — لا يُذكر كثيرًا. وبالمقارنة مع دمشق وباكو أو نظائرهما، تبدو أنقرة، والدوحة، وإسلام آباد في الصدارة تتقدّم المشهد.
دعونا نختار إحدى هذه الدول، ولتكن باكستان. كان يمكن أن نختار قطر أيضاً، لكن أهميتها اتضحت بالفعل من رد فعل ترامب عقب الهجوم الإسرائيلي. فقد تم توقيع اتفاقية استثنائية مع قطر، وتضمنت بنوداً تذكّر بالمادة الخامسة من حلف الناتو، ووُقع عليها بشرط "عدم تكرار ذلك أبدًا". تأمّلوا المشهد: نحن أنفسنا لسنا واثقين من أن الناتو سيتدخّل لو تعرّضنا لهجوم، ومع ذلك جعلت الولايات المتحدة — التي لم تُبدِ أيّ ردّ فعل بينما كانت تُسفك دماء عشرات الآلاف — إسرائيل تقدّم اعتذارًا علنيًا أمام أنظار العالم. وإذا نظرنا إلى الأمر من الجانب المعاكس، نجد أن إسرائيل، التي لا تأبه حتى بالولايات المتحدة، وتجرؤ على تهديدها عند الحاجة، ويُصفَّق لها في الكونغرس الأمريكي أكثر من أي رئيس أمريكي، قد أذعنت أيضاً.
أما باكستان فتبرز كدولة أكثر أهمية من قطر؛ فهي على عكس الجميع، خلقت مجال مساومة مختلفاً؛ إذ إنها موجودة اليوم على الأجندة الإيجابية لثلاث قوى عظمى: روسيا، والصين، والولايات المتحدة. لقد ضحّوا من أجلها بشريكٍ استراتيجي وقوةً عظمى كالهند. وقد عززت باكستان، البلد الشقيق والصديق، من مكانتها كـدولة مسلمة وحيدة تمتلك أسلحة نووية، وذلك عبر الاتفاقية التي وقعتها مع المملكة العربية السعودية بعد الهجوم الإسرائيلي على قطر.
وتحظى باكستان أيضاً باهتمام خاص من الرئيس الأمريكي؛ حيث استقبل أهم شخصيتين في باكستان، رئيس الوزراء ورئيس الأركان، في البيت الأبيض ثلاث مرات خلال عام واحد. وقد أثنى ترامب على ضيوفه بعبارات مدح رفيعة في كل تصريح له. هذا أكثر من كافٍ، ولكن هناك المزيد؛ فباكستان تمتلك مقومات جيوسياسية عالية، مثل ميناء جوادر الذي أُشير إليه مرات لا تحصى، وموقعها الجغرافي الحساس بالنسبة لأفغانستان وإيران، وموقعها على محور الشمال والجنوب. وبالطبع جيشها؛ فإذا سألت ترامب، فسيكرر ما قاله عن القوات المسلحة التركية: "لقد بنوا جيشاً رائعاً".
نحن نتحدث عن دولة واحدة فقط. والآن أضيفوا الدول الأخرى إلى الخريطة. وكما أن هناك دولًا صاعدةً، فهناك أيضًا دول هابطة أو في طريقها إلى الانحدار، وذلك بدوره يفتح مسارًا آخر لفهم المشهد. وهكذا يستمرّ التحليل ويتشعّب، لكن إن أحسنتم جمع الخيوط وربطها على نحوٍ صحيح، فستبدؤون بالوصول إلى الإجابة عن السؤال الجوهري: "ما الغرض من كل هذا؟"
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!