د. الزبير خلف الله - خاص ترك برس

ماشهدته تركيا خلال مدة 12 سنة وخصوصا في الآونة الأخيرة من انتصار كاسح لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية، ثم تلاه فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية التركية بانتخابه من قبل الشعب التركي مباشرة، واختيار أحمد داوود أوغلو رئيسا لحزب العدالة والتنمية ورئاسة الوزراء يوحي فعلا بأن تركيا تعيش مرحلة تحول جذرية تطوي صفحة تاريخ قديم مفعم بمعاناة الشعب التركي الذي عاش في جمهورية مزيفة كان يكتنفها الوهم والزيف،

مرحلة لم تعرف فيها تركيا سوى التخلف والجهل، وقمع الحريات، وتحكم المؤسسة العسكرية التي ظلت تتدخل في السياسة على مدار 90 عاما، وتغتال الحرية وتسفك دماءها أمام مرأى ومسمع العالم.

تركيا اليوم تشهد ثورة جديدة عبر وعي سياسي جديد وبنخبة سياسية تمتلك وعيا واسعا يطمح أن يعيد لتركيا مجدها الذي اغتالته ذئاب الجمهورية الأولى، وإعادتها الى حضنها الشرقي الإسلامي بعد أن حولتها العصابات الكمالية وتجار الوهم الى فتاة عارية في شوارع باريس و إلى مومس تتعاطى العهر السياسي في أروقة البيت الأبيض.

إننا أمام وجه جديد لتركيا التي صرح زعيمها المنتخب رجب طيب أردوغان أنها ستكون بوجه جديد، وستتكلم لغة جديدة يفهمها الشعب، وستضمد جراح كل المكلومين، وتعيد البسمة لكل التائهين في أروقة الحرمان والفقر والقهر من أبناء الشعب التركي ومن أبناء أمتنا العربية والإسلامية.

مشاهد اليوم في مراسم تنصيب أردوغان والأسلوب الراقي الذي تم فيه لانتقال السلطة قدم فعلا صورة جديدة لتركيا الأمل لكل قضايا التحرر ولكل المقهورين والمظلومين في العالم وفي مقدمتهم القضية الفلسطينية والثورة السورية والعراقية والمصرية وكل وطن جريح.

من هنا يتضح لكل عاقل ومنصف أن تركيا دفنت ماضي جمهورية مزيفة وأعلنت للعالم عن ولادة جمهورية الحقيقة الجديدة .

نلمح هذا في خطاب أحمد داوود أوغلو في المؤتمر الاستثنائي لحزب العدالة والتنمية حين قال: إن تركيا لن تعمل فقط على إيصال تركيا إلى مرفإ السلام وإنما ستعمل على ايصال كل العالم الى ميناء السلام.

تبرز تركيا اليوم مع أردوغان وأحمد داوود أوغلو وبكوادر حزب العدالة والتنمية أنها ستكون القعلة الأساسية المدافعة عن قضايا الأمة وعن كل قضايا التحرر العادلة في العالم. 

تركيا والمسارات الجديدة

قد يبدو للقارئ ما ذكرناه سابقا أنه كلام مفعم بالمشاعر،  ويغيب فيه العقل التحليلي. ورغم أني لا أميل الى التحليل العاطفي إلا أن كلامي العاطفي قد بني على معطى مسار تجربة حزب العدالة والتنمية التي عشت معها منذ أن كانت حلما، وتتبعت مراحل تطورها مرحلة بكل تفاصيلها، فوصلت الى قناعة مهمة مفادها أن تركيا تتجه نحو مسارات جديدة تقطع مع الموروث القديم للجمهورية الكمالية التي جعلت من تركيا ممرا إقليميا يمر عليه اللصوص الدوليون لنهب ثروات الشعب وثروات أمتنا، وتؤسس لجمهورية جديدة بمفردات جديدة وبرؤية واقعية تستند الى مبادئ وثوابت وطنية وحضارية.

تركيا اليوم تبني تصورا جديدا وتشق طريقها نحو إعادة تموقعها بشكل أفضل داخل لعبة التوازنات الدولية، وترسم مسارات جديدة تجعلها قادرة على ملاعبة الذئاب في منطقة الشرق الأوسط وفي كل بقاع الارض.

مانراه اليوم من تواتر للأحداث ومن نجاحات كبيرة تحققها تركيا على كافة المجالات يجعل الغرب ينظر إلى تركيا بنظرة جديدة، ويعيد حساباته تجاه هذا العملاق الذي استفاق من تخديره ونهض من وهمه العميق ليعيد لنفسه وضعا جديدا يليق به داخل رقعة شطرنج السياسة الدولية.

لقد سمعنا من كل المسؤولين في حزب العدالة والتنمية ابتداء من أردوغان الى عبد الله غل والى أحمد داوود أوغلو أنهم يريدون لتركيا أن تلعب دورا بارزا في الساحة الدولية، وأن تتزعم معسكر السلام العالمي في وجه تجار الحروب من الأمريكان والأوروبيين والصهاينة والمتآمرين من حكام العرب.

لا شك أن تركيا لا ترغب في أن يتم استدراجها للدخول في حرب في المنطقة، ولكنها مستعدة حسب ما صرح به أردوغان أن تركيا ستدافع عن أراضيها وعن كل شبر من العالم العربي والاسلامي.

ورغم أن تركيا اليوم تعرف نهضة كبيرة على كافة المستويات إلا أنها ستصطدم في المرحلة القادمة بعدة كيانات جديدة صنعت خصيصا لها في منطقة الشرق الأوسط حتى توقف تمددها، وتلجم كل طموحاتها وآفاقها التي باتت واضحة من خلال طبيعة المشاريع التي يتم إنجازها اليوم في تركيا مثل: مشروع قناة استانبول، ومشروع أكبر مطار في العالم، وعدة مشاريع اقتصادية أخرى عملاقة. كذلك سعيها الى تشكيل تحالفات اقتصادية في منطقة آسيا، وعودتها القوية الى الجمهوريات التركية التي كانت خاضعة للاتحاد السوفياتي سابقا، الأمر الذي قد يدفع بالدول الغربية وبعض القوى الإقليمية الى التصدي لهذا المارد التركي الناهض.

ورغم أن أردوغان قد أشار خلال مراسم تسليم الرئاسة إلى أن تركيا ستعمل على الدخول الى الاتحاد الأوروبي إلا أن هذا الهاجس لم يعد يقلق تركيا، ولم يعد يشكل طموحها الأولي مثملا كان في بداية وصول اردوغان الى السلطة في انتخابات سنة 2002، خصوصا وأن الاتحاد الأوروبي يعيش الآن حالة من التقهقر والضعف، وأنه في نظر تركيا لم يعد مطحما لها، بل ان تركيا باتت تنظر الى دخول تركيا الاتحاد الاوروبي سيكون حملا ثقيلا علىيها قد يعيقها عن تنفيذ مساراتها الجديدة.

لكن كلام أردوغان عن الرغبة في الدخول الى الاتحاد الأوروبي يريد من خلاله أن يبعث برسالة طمأنة الى الدول الأوروبية وإلى كل دول العالم أننا سنعمل على التعاون معكم، وأننا لا نرغب في التصادم معكم بل نريد أن نتعاون معا، و نعمل سوية على تحقيق التعاون والسلام العالمي ونؤسس نظام عالمي جديد يحقق العدالة والحرية لكل شعوب الارض وينهي كل مظاهر الظلم التي تسلطها الدول الغنية على الدول الفقيرة في العالم.

خطاب فيه من العقلانية والواقعية مايوحي بملامح جمهورية جديدة تعمل على إخراج تركيا من دائرة الوهم الى دائرة الحقيقة. وبهذا تكون تركيا قد طوت مرحلة جمهورية الوهم لتعلن لكل العالم عن جمهورية الحقيقة وعن انطلاق مساراتها الجديدة.   

عن الكاتب

د. زبير خلف الله

كاتب - المركز العربي التركي للتفكير الحضاري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس