د. نزار الحرباوي

كثير من الناس يعيش ويموت وهو لم يترك أثراً ، وكثير من الناس لا يجلب لنفسه بعد حياته إلا المذمة ، ولكن هناك آخرون جعلوا من حياتهم مفخرة وصناعة للنجاح والعطاء ، واليوم ، أحببت أن أفتح صفحة مشرقة من صفحات هذا التاريخ من خلال شخصية فذة ، لها صلتها بفلسطين والحجاز ، وبالقيم المعرفية والتكنولوجية العصرية على حد سواء ، ألا وهو السلطان العثماني عبد الحميد خان الثاني . 

في الدراسات الغربية المعاصرة ، عندما يتم ذكر اسم السلطان عبد الحميد الثاني فإن أول شيء يتبادر إلى الذهن الإنجازات الاستراتيجية الكبرى التي قام بها في حياته على امتداد الجغرافيا العثمانية القديمة ، من الإنشاءات ومحاضن العلوم والمحاضن العسكرية ونحوها ، ولعل أشهرها هو خطوط البرقية والبريد التي تعتبر أحسن وأفضل وأضمن وأسرع نظام اتصال في العالم في ذاك العهد. 

ولكن ، وبنظرة استراتيجية ، فإن هذا المشروع لا بد أن يقترن بأذهاننا بمشروعه الاستراتيجي الكبير ، ألا وهو: إنشاؤه للسكك الحديدية الممتدة من منطقة روماألي إلى الحجاز ، ومن الأناضول إلى بغداد ، فهذه السكك الحديدية التواصلية هي من أكبر مشاريعه العالمية . 

لقد استوعب السلطان عبد الحميد الثاني أهمية السكك الحديدية اقتصادياً وسياسياً بشكل جيد، وشجع بناء السكك الحديدية في الدولة عبر تقديم امتيازات مختلفة للبلدان الأجنبية لاستقدامها ، وذلك لأجل نشر السكك الحديدية في الأراضي العثمانية مترامية الأطراف. 

 فبينما تم بناء أول سكة حديدية في العالم عام 1825م  في بريطانيا، بدأت أعمال السكك الحديدية في الدولة العثمانية بعدها بحوالي ثلاثين عاماً من هذا التاريخ وأخذت أشكالاً متسارعة ومتقدمة ، وتعد الفترة الأكثر انتشاراً للسكك الحديدة هي فترة السلطان عبد الحميد الثاني ، إذ تم الترخيص لبناء 5350 كيلومتراً من السكك الحديدية في الفترة بين 1889-1898م ، وهو رقم كبير له دلالاته لا سيما في ذلك الزمان. 

سكة حديد الحجاز مشروع استراتيجي ينضوي تحت مشروع السكك الحديدية العامة ، ولكنه الأهم والأخطر على الإطلاق ، ولد دلالات دينية تتصل بالحج وزيارة القدس ، وله دلالات عسكرية بحماية الجغرافيا وسهولة توصيل المدد والدعم اللوجستي ، وله جوانب اقتصادية وثقافية وتنموية متعددة ، ولذلك تم العمل عليه بسرعة كبيرة ، حيث تم الوصول إلى محطة Hvyran عام 1904م ، ومن بعدها إلى بيروت وحيفا في شمال فلسطين عام 1905م، وتم الوصول إلى المدينة عام 1908م.

في أول رحلة لهذا القطار التاريخي ، أراد السلطان أن يجعل من الحدث مناسبة عامة وعالمية ، ففي ال27 من آب/أغسطس انطلق أول قطار من الشام ، وكان على متن هذا القطار الذي أعد بشكل خاص أركان الدولة والمدعوون من الطبقات العليا ومن مختلف الجنسيات ، والصحفيون المحليون والأجانب ، وقد أذهلهم المشروع ، لا سيما وأن سرعة القطار المتمثلة في 40 إلى 60 كم في الساعة الواحدة جعلته أسرع قطار في ذلك العهد.

وبعد انهيار الدولة العثمانية تم تأسيس عشرات البلدان المستقلة، ولكن هناك حقيقة مثيرة للانتباه ، ألا وهي حالة افتقاد المشروعات الجامعة والتنموية على المستوى الاستراتيجي ، إذ لم تحقق أي واحدة من هذه البلدان منذ أكثر من 100 عام تشييد مثل طول السكك الحديدية التي شيدت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ، ولم تكن لدينا مثل هذه الأطروحات لتعميم هذه الخبرة التاريخية التي نحتاجها اليوم كاحتياجنا للهواء الذي نتنفسه لتغيير معادلة الواقع والكبت وضيق الأفق وكساد الاقتصاد البيني والاسواق الاستراتيجية العربية وعوامل التنمية في التعليم والثقافة والاقتصاد والسياحة البينية. 

عن الكاتب

د. نزار الحرباوي

مستشار إداري وإعلامي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!