ترك برس

أولًا لاستيعاب العلاقات الإيرانية التركية في هذه الفترة بشكل جيد، لا بد من إلقاء نظرة سريعة وموجزة على ماضي العلاقات المتبادلة بين الطرفين. تعود الدعائم الأولى للعلاقات المتبادلة بين تركيا وإيران إلى تاريخ قديم جدًا، بدأت العلاقات المتبادلة بين الطرفين بتنافس وتنازع شديدين الوتيرة.

تأسست الدولة الصفوية عام 1501، من قبل الشاه إسماعيل الذي كان يحمل أهداف توسعية فوق منطقة الشرق الأوسط والمناطق التي تسيطر عليها الدولة العثمانية، واستمر التنافس الثقافي والمذهبي "الناعم" بين الطرفين إلى عام 1514 إذ وقعت معركة "تشالديران" بين الطرفين بقيادة ياووز سليم في الطرف العثماني، وقيادة الشاه إسماعيل في الطرف الصفوي الفارسي.

لم تطل المعركة، إذ استطاع الجيش العثماني إحراز تفوق عسكري ملحوظ على الجيش الصفوي خلال فترة وجيزة، واستمر الجيش العثماني في ملاحقة الجيش الصفوي إلى أن دخل عاصمة الدولة الصفوية آنذاك "تبريز". بعد بلوغ السلطان ياووز سليم وجود تحضيرات عسكرية من قبل المماليك لاستهداف الدولة العثمانية، ترك أرض المعركة على الفور وعاد إلى إسطنبول مخلفًا وراءه العديد من المناطق التي سيطر عليها في معركة "تشالديران"، إلى الدولة الصفوية.

منذ عام 1514 حتى عام 1639 استمرت المناوشات الطفيفة بين الجيش العثماني والصفوي، وفي عام 1639 تم توقيع اتفاقية "قصر الشيرين" التي على إثرها توقفت كافة المناوشات الطفيفة. توقفت المناوشات الخفيفة بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية، ولكن ظل التنافس السياسي والاقتصادي والثقافي والمذهبي مستمر على نفس الوتيرة.

وعلى الرغم من تأسيس دولة علمانية في تركيا عام 1923 وأخرى في إيران عام 1925 إلا أن التنافس السياسي والاقتصادي والمذهبي "في بعض الأحيان" ظل على حاله القديم، ويُعد العنصر الديني هو العنصر الأساسي للتنافس الشديد بين الطرفين، فإيران ذات أغلبية شيعية وتركيا ذات أغلبية سنية.

اتسمت العلاقات بين الطرفين بالبرودة منذ عام 1923، عام تأسيس الجمهورية التركية، وحتي الخمسينات، ولكن بعد توجه الاتحاد السوفييتي إلى نشر أفكاره الإيدولوجية أصبح لدى الطرفين خطر مشترك، لذلك طغت على العلاقات المتبادلة للطرفين سمة التقارب والتحالف، واجتمع الطرفان تحت مظلة "حلف بغداد" "سانتو" الذي تأسس تحت رعاية أمريكية ومشاركة بريطانية مباشرة عام 1955، وضم كل من باكستان والعراق، وأُطلق عليه اسم "الحزام الأخضر".

استمر هذا الحزام في فعاليته التعاونية النشطة بين الطرفين إلى عام 1979، حيث ظهر للسطح الثورة الإسلامية التي أخذت بإيران بعيدًا عن المنهج الغربي وانتهجت النهج الديني "الشيعي" التوسعي، عاد التوتر يغيم على العلاقات المتبادلة بين الطرفين عقب نجاح الثورة الدينية الشيعة التي أحدثت بواعث قلق شديدة لدى القيادة التركية خوفًا من انتقال شعلة هذه الثورة إلى الداخل التركي.

القلق الشديد دفع الحكومة التركية إلى تشديد خناقها على الفعاليات الدينية في الداخل، ودفعها إلى تأسيس علاقات حذرة مع إيران. في التسعينات بدأت مرحلة التنافس الشديد بين الطرفين، إذ دعمت إيران حزب العمال الكردستاني "الإرهابي" كتعبير على انزعاجها الشديد من حجم العلاقات الجيدة بين تركيا وإسرائيل، وفي تلك الفترة أيضًا بدأت بذرة التنافس الجيو سياسي بين إيران وتركيا، إذ كانت سوريا التي لديها العديد من المشاكل السياسية والاقتصادية مع تركيا، أولى الدول التي تقربت إلى إيران على حساب تركيا، بينما كانت العراق أولى الدول التي تقربت إلى تركيا على حساب إيران والمصالح الإيرانية.

في بدايات الألفية الثالثة وبعد تولي حزب العدالة والتنمية لمقاليد الحكم، اتسمت العلاقات الإيرانية التركية بحالة من التقارب الملحوظ والنوعي، إذ تغيرت الحالة العامة للسياسة العالمية وكانت حكومة حزب العدالة والتنمية مُتبنية لنهج العلاقات الجيدة مع جميع الدول بلا استثناء.

كما أن حاجة الطرفين إلى علاقات اقتصادية قوية لرفع مستوى النمو الاقتصادي الخاص بهما، أضحت النبعة الأساسية التي قربت منها أكثر فأكثر، تم توقيع أكثر من اتفاقية طاقة في هذا الإطار، ودفع التبادل الاقتصادي الوثيق الطرفين إلى إقامة علاقات تعاونية وطيدة تقلب صفحة الماضي وتفتح صفحة جديدة، ويُعتبر الموقف المعادي الشديد الخاص بالولايات المُتحدة الأمريكية تجاه إيران عقب ظهور أنشطة إيران النووية للسطح وإعلان الولايات المُتحدة الأمريكية حربها على الإرهاب إبان أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001.

ساهم الموقف الأمريكي المُعادي لإيران، في جعل إيران تتقرب أكثر لتركيا من ناحية سياسية واقتصادية واجتماعية. في ظل العداء والحصار الغربي لإيران، اضطرت الأخيرة إلى إرساء دعائم علاقات جيدة مع تركيا التي كانت تمثل سوق استهلاكي جيد للطاقة الإيرانية، والتي كانت بمثابة الجسر الواصل بين إيران والعالم لنقل البضائع الإيرانية إلى عدة دول حول العالم.

على صعيد آخر، لا يمكن إنكار التنافس الشديد "الخفي" للعلاقات التركية الإيرانية، الساحة الأكبر للتنافس الجيوسياسي بين إيران وتركيا كانت الدولة العراقية، حاولت تركيا دعم السنة وحاول إيران دعم الشيعة، وبفضل الدعم الإيران القوي والدعم الأمريكي أيضًا القوي، تمكن الشيعة من اعتلاء سدة الحكم وفرض السيطرة الكاملة على كافة أرجاء العراق، وكسبت إيران أولى جولاتها فيما يتعلق بالتنافس الجيو سياسي بينها وبين تركيا.

في الحقيقة بعد انتهاء حرب الولايات المُتحدة الأمريكية على العراق تم تأسيس إقليم شمال العراق "الكردي المستقل ذاتيا ً"، هذا العنصر كان باعث خوف وقلق لكل من إيران التي تعاني من النزاع مع منظمة "بيجاك" الكردية "الإرهابية" وتركيا التي تعاني من النزاع مع منظمة "بي كي كي" الكردية "الإرهابية"، إذ أسهم هذا العنصر في رفع دوافع الحس القومي لدى المواطنين الأكراد في كلا الدولتين.

في ظل هذه الاحتمالات والهواجس، عارض الطرفان قضية تأسيس إقليم شمال العراق بشكل مستقل، ودعما فكرة وحدة الأراضي العراقية، ولكن اليد الأمريكية كانت ذات قبضة أقوى على الساحة، ودعمت فكرة تأسيس إقليم شمال العراق، فخسرت إيران وتركيا هذه الجولة بشكل متساوي، ولكن في حين خرجت إيران رابحة في فرض سيطرتها الكاملة الغير مباشرة على كافة ربوع العراق، خرجت تركيا خاسرة فارغة الأيدي.

وأثبتت إيران قوتها في السيطرة على العراق بعد تمكنها من جعل "نوري المالكي" رئيسًا للوزراء في العراق عام 2010، على الرغم من فوز إياد علاوي وقائمته "القائمة العراقية" بالأغلبية، وعلى الرغم من الدعم القوي لتركيا في جعل إياد علاوي رئيسًا للوزراء إلا أن تشعبات إيران السياسية في العراق، كانت أقوى من تلك التركية.

بفوز "نوري المالكي" تكون العلاقات التركية الإيرانية دخلت مرحلة توتر ضمني ستتضح جوانبه بعد عام 2014، السبب الرئيس في ميلاد توتر ضمني بين تركيا وإيران يعود إلى تبني المالكي لسياسة طائفية شديدة الوتيرة يهدف من خلالها اقصاء واستبعاد السنة عن جميع مناصب الدولة وممارسة أبشع الجرائم بحقهم.

سياسة الإقصاء التي مارسها المالكي بحق السنة دفعتهم إلى الخروج بمظاهرات عارمة طالت كافة أرجاء المناطق السنية، وكان الموقف التركي داعم لهذه الثورات ورأى منها ثورات عادلة، ولكن إيران دعمت المالكي في دفعه لضرب هذه المظاهرات وإنهائها، وبعد مرور ثلاث أعوام على هذه المظاهرات دون نتيجة، ظهر للسطح منظمة "داعش" "الإرهابية" التي لاقت دعم "اضطراري" من بعض القبائل السنية في العراق، ولمح بعض المسؤولين الإيرانيين إلى اتهام تركيا بدعم داعش.

إلى جانب العراق ألهبت الساحة السورية وتُرجم التنافس الجيو سياسي الإيراني التركي من جديد، ولكن هذه المرة ليس كسابقتها، إذ أظهرت تركيا في الساحة تحرك عسكري نشط بشكل أكبر من خلال دعم قوات المعارضة "المعتدلة"، ويعيش اليوم التنافس الجيو سياسي بين إيران وتركيا في الفترة الأخيرة أشد مراحله، إذ ترى إيران من سوريا أرض خصبة لتمددها الجيو ثقافي، بينما ترى تركيا من سوريا دولة انتفض شعبها بشكل سلمي بقصد نيل حقوقه من النظام المستبد، وهي تستحق الدعم الوفير من أجل تحقيق ما ترنو إليه وشعبها، حتى تحقيق النجاح في ذلك والوصول إلى الهدف المنشود.

تميزت العلاقات الإيرانية التركية في ظل حزب العدالة والتنمية بالتناغم الاقتصادي ولكن على الصعيد الأخر اتسمت بالتنابذ الملحوظ في المجال السياسي والاجتماعي والثقافي، استمر الخلاف بين الطرفين بشكل ضمني إلى عام 2011، حيث انطلاق الثورة السورية ومن ثم الثورة العراقية، إذ عقب هذه الثورات تضاد قطبي مبين بين الطرفين، حيث اتجهت تركيا إلى دعم الثورات بشكل عام، بينما اتجهت إيران إلى الازدواجية في دعم تلك الثورات، فدعمت الثورة المصرية والبحرينية ولكن عندما وصلت نيران تلك الثورات إلى سوريا وأصبحت تهز أركان النظام "النصيري العلوي" انقلبت عليها.

اليوم هناك تنافس واضح بين الطرفين فيما يخص القضية السورية بشكل خاص، حتى أن التناغم الاقتصادي الذي كان يُزين العلاقات الاقتصادية بين الطرفين انخفض بعض الشئ وأصيب بحالة من الفتور.

المراجع:

باسكين أوران، السياسة الخارجية التركية، 2012.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!